الخلاص من الأقفاص.. حكاية شعبية يرويها: جميل السلحوت
يُحكى أن رجلاً فقيراً مكث مع زوجته أكثر من عشر سنين دون أن تنجب له طفلاً، وفي أحد الأيام دعا الله أن يرزقه ولداً، وأنذر أنه سيملأ ثوب هذا الولد ذهباً ، وقد استجاب الله دعاءه، حيث أن زوجته قد حملت وأنجبت له ولداً ، ولما لم يكن يملك قوت يومه، فمن أين سيأتي بالذهب كي يفي نذره ، وفي صباح اليوم الثاني لميلاد ولده حمل نفسه، وقرر الذهاب من البيت والانتحار غرقاً في البحر، كي لا تنتقم السماء من ولده وتميته، لأن الوالد لم يستطع الإيفاء بنذره.
وعندما وصل شاطىء البحر، وجد عصفورا يزقزق أمامه، ومن أي منطقة يريد عبور البحر فيها كان العصفور يقفز أمامه، وبما أنه كان جائعاً فقد أمسك العصفور وذبحه، وجمع قليلاً من الحطب وشواه، ولما أراد أن ينفض الرماد عنه كي يأكله انتفض العصفور حياً، وقفز من بين يديه، فقال الرجل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ما هذا ؟
فقال العصفور: قل لي أيها الرجل، إلى أين أنت ذاهب؟ فاحتار الرجل من العصفور الذي يتكلم، وأخبره عن قصة نذره، وأنه جاء الى البحر كي ينتحر، فقال له العصفور: أعدل عن رأيك وخذني معك، وبعني لأكبر تجار المدينة، وسوف أجعله يشتريني بذهب يملأ ثوب طفلك عشرات المرات، فذهب الرجل واشترى قفصاً ووضع العصفور فيه، وقصد أغنى تجار المدينة، ووقف باب متجره، فأخذ العصفور يغرد تغريداً يسحر القلوب، فالتفت التاجر اليه وقال للرجل: هل تبيع هذا العصفور بدينار، فرد العصفور قائلاً : دينار واحد فقط ؟ فذهل التاجر عندما رأى العصفور يتكلم، وقال : اذاً بمئة دينار.
فقال العصفور : ان ثمني هو أن تملأ ثوب طفل ابن يومه ذهباً، وان لم تدفع هذا الثمن ستندم… فوافق التاجر بعد أن أكد عليهما – العصفور والرجل الفقير – بأن يكون الطفل ابن يومه…. فاستأذن العصفور والرجل الفقير بالذهاب كي يأتيا بالطفل، وفي الطريق طلب العصفور من الرجل أن يـُلبس ثوبه للطفل ، فخاف الرجل أن يرجع التاجر عن قبوله المبادلة اذا ما فعل ذلك، لكن العصفور طمأنه، وأحضر الرجل الفقير طفله الذي ألبسه ثوبه – أي ثوب الأب– ولما احتج التاجر على الثوب، قال له العصفور نحن اتفقنا أن نأتيك بطفل ابن يومه، وهذا هو الطفل، وهذا هو ثوبه…فوافق التاجر وأخرج كل مدخراته من المال والذهب حتى استطاع أن يملأ الثوب، وأعطاه لأب الطفل، وأخذ التاجر العصفور، وأصبح الرجل الفقير من أغنى أغنياء البلد، أما التاجر الذي اشترى العصفور فقد علق القفص على باب متجره، وأخذ العصفور ينادي المارة لشراء البضاعة الفريدة الرخيصة، وكلما سمع أحد المارة نداء العصفور كان يحضر ويشتري قطعة من القماش من أجل أن يرى العصفور، وعندما أتى المساء كان التاجر قد باع كل ما في متجره، فأحضر بضاعة أخرى في الليل، وكل يوم هكذا الى أن جمع مبالغ طائلة من المال. وكان التاجر متزوجاً من امرأة شابة على الرغم من أنه في سن الشيخوخة، فقرر أن يذهب لآداء فريضة الحج في ذلك العام، وأوصى العصفور خيراً بامرأته، وطلب منه أن لا يسمح لها بالخروج من البيت أثناء غيابه في الحج، فاستعد العصفور لذلك بعد أن أوصى التاجر بأن يسأل مجموعة من العصافير تشبهه سيراها في مكة: ما الخلاص من الأقفاص ؟
فاستعد الحاج لذلك، وسار في طريقه لأداء مناسك الحج، وكان أحد شباب المدينة يحب زوجة التاجر الشابة دون علمها، ولما كان يعرف أنها لا تخرج من بيتها، فقد ذهب لعجوز داهية، وطلب منها أن تستدرجها الى خارج البيت بعد أن أعطاها مبلغاً من المال أجرة لها، فذهبت العجوز الى بيت التاجر، وطرحت عليها السلام، وتمنت لزوجها العودة سالماً من الحج، وقالت لها : يا عزيزتي ، إن ابنتي فلانة خطبها أحد الشباب، ولا بارك الله لها في خطيبها، فقد رفضت أن تخرج من بيتنا الى بيت الزوج الا أن تحضري وتمشطي لها شعرها، فقالت لها زوجة الحاج: هذه بسيطة يا سيدتي وما عليك، سأذهب أنا من ناحيتي، لكن زوجي أمرني بعدم الخروج، والذي يخيفني هو هذا العصفور اللعين، فإذا ما رآني خرجت فإنه سيخبر زوجي عند عودته، وبالتالي سأقع في مشاكل معه. فاقترحت عليها العجوز أن تذبحا العصفور، فوافقت زوجة التاجر، وقامت وأغلقت النوافذ، وفتحت القفص كي تُخرج العصفور منه، فقفز من بين يديها بخفة ودخل– داخون– الموقد فظنتاه قد خرج بلا عودة، وأرادتا الخروج، غير انه أطل عليهما، وقال لزوجة التاجر: لا تخرجي حتى أقصّ عليكِ حكاية الرجل الذي ندم على بيع ابنه، فاستمعت له وقال:
كان لأحد التجار ابن صالح يتيم الأم، وكان اذا ما جلس في متجر والده، فإن المشترين يتهافتون عليه من كل حدب وصوب، وفي احدى الليالي بينما كان الابن نائماً رأى في منامه أن الشمس على يمينه، والقمر على يساره، وفي هذه الأثناء جاء شيخ وقال له: تأخر عن موعد ذهابك الى متجر والدك غداً ساعتين، وبعدها اذهب اليه، وعندما يسألك لماذا تأخرت؟ قل له : لقد حلمت حلماً، فإن قال لك: خير والصلاة على النبي، فقل له حلمك، واذا ما صاح بك فاهرب منه وعد الى البيت. واذا لم تفعل كما أقول لك، فإنني سأقتلك في الليلة القادمة، وفي اليوم التالي تأخر الولد كما رأى في حلمه، ولما ذهب الى متجر والده: صاح به غاضباً: لماذا تأخرت؟ فقال له الابن بأنه قد حلم حلماً، فانتهره الأب وصاح به، فعاد الولد الى البيت، فتبعه والده، وهناك أمرته زوجته أن يبيعه في سوق النخاسة، حيث أن أمّ هذا الابن كانت ميتة، وكانت زوجة أبيه تكرهه لأنه أذكى من أبنائها – وأخذ الرجل ابنه وباعه بمائة دينار لأحد الفقراء الذي يملك دكاناً متواضعاً، فأخذ الناس يتهافتون على متجر الرجل الذي اشترى الولد، حتى أنه أصبح أغنى أغنياء المدينة، في الوقت الذي لم يعد أحد يشتري من والده، حتى بات فقيراً، وبعد ذلك جاءت امرأة عجوز لبيت الرجل الذي اشترى الولد، وطلبت منه أن يبيعه لها، فطلب منها ألف دينار، ولما وافقت باعه لها، فأخذته وسارت الى ان وصلت به مكاناً في قصر منيف، وأدخلته فيه، وأنعمت عليه كثيرا،ً ثم أخذت تعطيه كل يوم خمسة دنانير، وتأمره بالذهاب الى المدينة كي ينفقها، على شرط ألا يرجع أي قرش منها، وكانت الأشياء رخيصة جداً في ذلك الوقت، فكان الولد يأكل أحسن الطعام، ويشتري أحسن الملابس، الا أنه مع ذلك لم يستطع أن ينفق الخمسة دنانير كاملة على نفسه، فكان يتصرف بالذي يتبقى معه، وفي أحد الأيام رأى الولد شيخاً فقيراً يتسول في زقاق المدينة، فتصدق عليه بدينار، وسأله عن حاله، فقال له الشيخ: بأنه أب لخمسة أطفال، ولا يقوى على العمل، ولا يوجد معيل لأطفاله، فأشفق عليه الولد، وقال له: انتظرني في مثل هذا الوقت من كل يوم، وسوف أعطيك أربعة دنانير كاملة، ومضى على هذا الحال أكثر من سنة أصبح خلالها الشيخ المتسول ثرياً جداً، حيث أن أربعة دنانير كانت تساوي دخل أربعة رجال في الشهر، فذهب الى الملك وقال له: أن شاباً سرق خزينة الدولة، ولما سأله كيف عرف ذلك؟ أجابه بأنه يعطيه منها كل يوم أربعة دنانير، فأرسل الملك مجموعة من الجنود مع الشيخ المتسول، وقبضوا على الشاب، وأخذوه الى قصر الملك، وأودعوه السجن، وحضر الملك لرؤيته، ولما سأل الملكَ عن سبب سجنه، أجابه الملكُ بأنه قد سرق خزينة الدولة، وعندها سأل الملكَ: وهل خزينة الدولة مسروقة؟ قال الملك : لا أدري ، لكن رجلاً أخبرني أنك تعطيه كل يوم أربعة دنانير، فقال الشاب للملك : اسأل وزيرك عن خزينتك، فاستحسن الملك جوابه، وأحضر وزير المالية وسأله عن الخزينة، فأجابه بأنها لم تُسرق، فاعتذر الملك للشاب وأطلق سراحه مساء ذلك اليوم، وقبض على الشيخ المتسول، وأودعه السجن بعد أن صادر ممتلكاته، وعندما عاد الشاب إلى قصر العجوز سألته عن سبب تأخيره، فقص عليها قصته، فقالت: صدقت .
وفي اليوم التالي قالت له: اذهب إلى الملك واطلب منه الأمان، وبعد أن يعطيك اياه، اطلب منه أن يقص عليك قصة الغزالة، فنفذ ما أمرته به، فهاج الملك وماج وأراد قتله لولا أن الوزير ذكره بأنه قد أعطاه الأمان وقال : بينما كنا نحتفل بعيد الاستقلال، ونقوم باستعراض الجيش كنت أخطب في الشعب وأنا على ظهر حصاني، وكان الناس يصطفون أمامي على شكل دائرة، وفي هذه الاثناء رأيت في منتصف الدائرة غزالة لها قرن ذهب، والآخر من الفضة، فطلبت من الناس أن يقبضوا عليها، وهددتهم بأني سأقطع رأس الذي تخرج من عنده، وكلما همت بالهرب من قرب رجل أو امرأة أو طفل كان يرفع يده فتعود، وأخيراً مرت من أمامي، وقفزت من فوق رأسي، وولت هاربه فطاردتها وأنا على ظهر الحصان وبقيت خلفها الى ان وصلت جحرا ودخلت فيه، فربطت حصاني ودخلت خلفها وهناك وجدت مدينة عامرة، وفيها قصر عظيم، واذا بالغزالة امرأة من أجمل النساء، فطلبت مني أن أتزوجها فوافقتها على طلبها، لكنني استأذنت منها بأن تسمح لي بالخروج ذلك اليوم، لأنه يوم احتفال شعبي، فقالت لي اذا لم تعد سأقتلك…
فأقسمت لها أغلظ الأيمان بأنني سأعود بعد أن أخرج وتركت– مسبحتي– تحت الفرشة التي كنت أجلس عليها، وما أن خرجت حتى عدت ثانية بحجة أخذ – المسبحة– فأعطتني اياها، وهكذا تخلصت من وعدي لها بالعودة اليها، ومنذ ذلك اليوم لم أرها ، وعاد الشاب الى العجوز وقص عليها قصة الغزالة كما أخبره الملك فقالت له: صدقت .
وفي اليوم الثالث طلبت منه أن يذهب الى الملك ويطلب الزواج من ابنته، ففعل كما طلبت منه، وزوجه الملك ابنته، وذلك لعلمه أنه يأتي من عند الغزالة فعاد بها الى قصر العجوز، وبعد أسبوع طلبت منه أن يذهب ويطلب الزواج من ابنة الوزير، فذهب، وزوجه الوزير ابنته بعد أن أخذ موافقة الملك، وبعد ذلك قالت له العجوز هذا تفسير حلمك يا بني، حيث إن ابنة الملك هي الشمس، وابنة الوزير هي القمر.
وعندما أكمل العصفور الحكاية دخل التاجر البيت عائداً من الحج، فاستقبلته زوجته والعجوز سلمت عليه وانصرفت، فقال العصفور للتاجر الحاج : هل سألت أمثالي من العصافير كما أوصيتك؟ فقال التاجر: نعم، لقد رأيت أسراباً كثيرة من الطيور تشبهك، وسألتها كما أوصيتني، وعندما سمعت سؤالي ماتت جميعها… وعند ذلك مات العصفور أيضاً، فحزن التاجر عليه وفتح النافذة كي يلقي به منها، ولما قذفه للخارج، انتفض وحلق في الجو عالياً وذهب الى غير رجعة.