خَمَّارة آكُوب (قصة قصيرة)
د. موسى رحُوم عبَّاس| أديب سوري يقيم في الرياض
الشَّارعُ ضيِّقٌ وضعيفُ الإنَارةِ، ولا يُفْضي إلى النَّهر، مثل كلُّ الشَّوارعِ المُوازية له. لم يتبقَ من اللَّوحة إلَّا قطعةُ حديد يأكلها الصَّدأ، ويلوح بها اسمُ آكوب مثل وشمٍ حائِلٍ. قلَّة هم الرِّجال الذين يعبرون الرَّصيف ولكنهم دائما مسرعون، ويدلفون إلى ذلك المكان وغالبا ما يتلفَّتون يمينا ويسارا قبل الانزلاق إلى الدَّرجات النَّازلة في المدخل. آكُوب – أو كما كنَّا نسمِّيه “الصَّنم” رجلٌ ضخمٌ وأصْلعُ، وبشرته أقرب إلى اللون الأحمر، وجهه لا ملامح محدَّدة له، لا يمكنكَ معرفة إِنْ كان غاضبا أو سعيدا، مثل خارطة لصحراء لا شيء مميزا فيها، وعيناه مُجرَّدُ ثقبين لا بريق يشعُّ منهما. اعتادَ أن يستقبلَ أولئك الرِّجالَ، لا يسألُ أحدًا منهم عَمَّا يودُّ أن يَشْربَهُ، يحفظهم كقصيدةٍ عن ظهر قلب، بل يعرفُ أي نوع من الموسيقا يفضله كلٌّ منهم.
نحن عُصْبة الفاشلين- هكذا كان يسمِّينا ناظرُ المدرسةِ – ندور حول هذه الخمَّارة كالذُّباب أمامَ مجزرة”عبدو العجل.” حفَّزنا غُمُوضُ زُبُنِها والضَّوءُ الشَّحيحُ أمامها وتحذيراتُ أمهاتنا من المرورِ من تلكَ البقعةِ التي تغصُّ بالسُّكارى لاكتشافِ ما يدورُ هناكَ. نقذفُ بالحقائب خلفَ السُّور أولا، ثم نلحقُ بها بطُرُقٍ شتى، وفي كلِّ مرَّة كان المديرُ يكتشفُ أمرَنا، ويقول جملته المعهودةَ، “لم أرَ أغبى من أبناءِ الشُّرطةِ.” وهو يعنيني أنا بالذَّات، لأنَّه لا أحدَ سواي ابن شُرْطي، فتعليمهم مثل طبيخ النَّوَر، كلُّ شهرٍ في قريةٍ أو مدينةٍ، ولا يستقرُّون في مكانٍ، حتى لهجتهم خليطٌ من كلِّ نواحي البلاد. يضحك الطُّلابُ، بل يضحكُ هو أيضا، ولا بدَّ من العصا عسى ولعلَّ! ويُردِّد على مسامعنا شيئا من الشِّعر عن الأخلاق وعن “العلم الذي يرفعُ بيتا لا عِمَاد له” وربما شيئا من قصائده الحديثة، ونحن عنه غافلون!
في هروبنا اليوم قرَّرنا إنجازَ ما نحلمُ به، فتسللنا إلى العمارةِ الخلفيةِ للخمَّارة، وكانت هذه العمارة ما تزالُ تحتَ الإنشاءِ، وفيها الكثيرُ من الأخشابِ والحجارةِ وأكياسِ الاسمنتِ، والأهمُّ من كلِّ ذلكَ لا أحدَ يمنعنا من ولُوجِها. كمنا خلفَ هذا الرُّكام، كانتِ النَّافذةُ الوحيدةُ لخمَّارة آكوب مفتوحةً، يتسرَّبُ منها ذلك الهواءُ الثَّقيل مُحمَّلا بدخانِ السَّجائر ورائحةِ الكُحول وعَفَنِ المكانِ. عيوننا تمسحُ المكانَ بدقَّةٍ، وكانَ أوَّلُ الواصلين الأستاذ أمجد المديروصاحب “العِلْمُ يرفعُ بيتًا لا عِمَادَ له.” تبعه بعد قليل رجلٌ ضئيل لا يملأ العينَ نحيفُ الوجه رغم شاربه الكثِّ، حتى البِزَّة العسكريَّة لم تمنحه الهَيْبَةَ التي يَنْشُدُها. أنا الوحيدُ الذي يعرفه، فقد زارنا عندما مرض والدي، وأُدْخِلَ إلى المستشفى، لأنَّه رئيسُ المخفر الذي يعمل به والدي. لكنَّني كتمتُ هذا عن العُصْبةِ، إذْ خشيتُ أن يهربوا إذا عرفوه. لم يطلْ بالأستاذ أمجد الوقتُ حتى وقف على كرسيه المتهالك ،سمعته ينشد بعض أبياتٍ لمالك بن الرَّيْبِ في رثاء نفسه، وكنتُ قد سَمِعْتُها منه سابقا، ومنها:
أقولُ لأصحابي ارْفعُونــــِــــي فإنَّه يَقَرُّ بعيني أَنْ سُهَيْلٌ بَدَا لِيَا
فيا صاحبَيْ رَحْلِي دَنَا المَوْتُ فانْزِلا بـــرابيةٍ إنِّي مُقِيمٌ ليــَــاليا
ينهضُ الرُّجل الضَّئيل ذو البِزَّة العسكرية، فيحاولُ رفعَهُ فلا يستطيعُ. يسقطُ، تتعالى الضَّحكاتُ، ثم يواصلُ شعره قائلا: وهذا نَصٌّ حديثٌ لي، ولا ينتظرُ رأيَهم، يقولُ:
في كلِّ ليلةٍ أضعُ حُزني في كيسٍ
أدُسُّه بَيْنَ أكياسِ القُمَامَةِ، لَعَلِّي
أتَحَايلُ على عَامِلِ النَّظافةِ، لكنَّه
يَطْرُقُ البَابَ صَبَاحًا، لِيقولَ:
سَيِّدي هذهِ أشياءُ طازجةٌ وجدتُها في قُمَامَتِكُم، وهأنذا أعيدُها
الأمانةُ سَيِّدي رأسمالُنا الأثْمَنُ!
يلعنُ الرَّجلُ الضَّئيلُ جَدَّ الأستاذِ أمجدَ وقبيلته وشِعْرَهُ وينزلهُ عن الكرسيِّ، ويعبُّ كأسَهُ دفعةً واحدةً. كان صوتُهُ يأتينا متقطِّعا لاهثا، لكنَّه واضحٌ، ورغمَ أنَّ رُوَّادَ الحانةِ قد تكاثروا لكنَّنا لا نرى وجوهَ معظمهم، يصرخُ في وجهه الآن، “أي حزنٍ وأي قُمَامةٍ تتحدَّثُ عنها؟”
يصمت المدير، يحرِّكُ رأسه يمينا ويسارا، وحسب.
يخلعُ الضابط قميصَه ويقول، “انظرْ إلى هذه الجُروحِ العميقةِ التي تحفِرُ مجراها في ظهري، هذه من سنواتٍ، وما تزالُ تؤلمني كلَّ ليلةٍ. كان عمِّي، زوج أمي، يربطني مع البهائم بسلسلةِ الحديد إذا أخفقتُ في امتحانٍ، أو دخنتُ سيجارةً. كنتُ آكلُ بقايا الفلافل في مقصف كُليَّةِ الحقوقِ، وأكنسُ الغرفة في المدينة الجامعية، وأغسلُ ملابسَ شَرِيكَيَّ فيها مقابل الطَّعام. أي حزنٍ تتحدثُ عنه ابنَ الكلبِ، ولهذا عندما جئتُ إلى هذه المدينة، كنتُ أقول: أيُّها النَّاسُ سأنتقمُ منكم جميعًا، لن تذرفَ دمعةٌ لي عندما أراكم تتألمون، سأجعلكم تكنسونَ الشَّوارعَ بألسنتكم، وتتمنونَ الموتَ ألف مرَّةٍ، ولا تصِلونَ إليه!”
سادَ الصَّمتُ قليلا، لينفجرَ بعدها بالبكاء. علا نحيبُه، وهو يحملُ سُترَته العسكريَّةَ بنجومِها اللامعةِ، بينما بقي الآخرونَ على صمتهم، وخواجة آكوب يجفِّفُ أكوابَهُ بمنشفةٍ صغيرةٍ، وأحيانا يمسحُ المَشْربَ بها. ولم يغادرْ مكانَهُ مُطلقا، خِفنا وشعرنا بالذَّنب. لا أدري لماذا، حاولنا الهربَ لكننا أسقطنا الحجارةَ في طريقنا، وسقطنا معها، وندَّتْ عنِّي آهةٌ شرخت الصَّمتَ، فقفزَ إلينا من كان داخل الحَانَةِ. افتضحَ أمرُنَا، وكنتُ أولَ المعروفين. في اليوم التَّالي عادَ والدي مساء، وهو يطلبُ منا أن نحزم حقائبنا ، فقد صدر أمر نقله إلى ناحية تلِّ الأحزان في جنوبِ البلادِ، وهو يُرَدِّدُ، “لم أفعلْ شيئا لأعاقبَ هكذا!”