بالحبر الأبيض.. سيرةٌ صحفيةٌ (7)

 علي جبار عطية | رئيس تحرير جريدة أوروك | العراق

    حصاد العهد الأجّرب !

(استيقظ طفلٌ، قبيل الفجر على صوت أمّه، وهي تبكي، فوضع الرضّاعة في فمها).. هذه واحدةٌ من الأقاصيص التي نشرتها في جريدة (العراق) العدد (٥٣٣١) الصادر يوم الثلاثاء الموافق ١٩٩٣/٩/٢١م ، في صفحة (النافذة الثقافية) التي كان يشرف عليها القاص، والكاتب عبد الستار البيضاني، والناقد عادل كامل.

كنتُ متحمّساً لهذا النوع من اللون الأدبي، بغضّ النظر عن التسمية، ولم أقل: أنّها قصّة قصيرة، لأنَّ هناك اشتراطات معيَّنة لهذا النوع من السرد. 

مضيتُ في مغامرتي السرديّة حتّى أنجزتُ مخطوطة مجموعة عنوانها ، (تقاطعات دجاجة ، وديك) ، اطَّلع  عليها الشاعر جواد الحطّاب ، منتصف التسعينيات، في مبنى اتّحاد الأدباء بساحة الأندلس ببغداد ، وأبدى دهشته لعبارةٍ وضعتُها في صفحة التعريف بالمطبوع، تقول: (حقوق الطبع مهدورةٌ ) !! 

وبعيداً عن استعراض العضلات ـ إن كانت هناك عضلات طبعاً ! ـ  فما  يهمّني هو المضمون، فقد تشكّلت بذهن القارئ صورةٍ  لطفلٍ يستيقظ قبيل الفجر، فيجد أمّه تبكي، فيظن أنَّها جائعة، تحتاج إلى رضّاعة  حليبٍ ! (هذا التنظير ، مضّطر إليه ، والسالفة (القصة) لها ربّاط أو رابطٌ حسب التعبير الفيسبوكي ! ) 

بعض الحلول التي  نلجأ إليها لحلِّ مشكلاتنا، أو تأتينا كقارب نجاةٍ، قد تشبه حلّ الطفل الذي ظنَّ أنّ سبب بكاء أمّه يمكن أن يكون الجوع، فوضع الرضّاعة في فمها ! 

بعد سبعٍ، وعشرين سنَّةٍ ، غيّرتُ طريقتي في السرد؛ لأنَّي وجدتُ أنَّ الكثير من الأفكار، لا يمكن التعبير عنها بعددٍ محدودٍ من الجمل، بل لابدَّ من الإسترسال في التفاصيل، وقد استفدتُ من  المعالجات السينمائيّة  في استخدام المونتاج المتوازي، لضخِّ أكبر قدرٍ من الأفكار ! 

عذراً للإطالة، ولكنَّه تمهيدٌ، أراه مناسباً لحلقة اليوم. 

لقد ارتبطتْ بـ(العهد الأجرب)  في جريدة ( التآخي) أسماءٌ كنت أجلَّها أن تظهر فيه لمهنيتها العالية، وتاريخها العريق، مثل الكاتب الساخر حسن العاني الذي عرفناه قاصّاً مهمّاً، وكاتب تحقيقاتٍ من الطراز الأوّل، وكاتب عمود ساخرٍ مميّزٍ ،  والروائي حسين علي شريف الذي صار بديلاً للناقد حسب الله يحيى في إعداد الصفحات الثقافية، والكاتب توفيق التميمي الذي يعدُّ صفحة تاريخيّة من الذاكرة  .. والشاعرة كولالة  نوري  ، التي صارت في هذا العهد كاتبة مقالٍ أسبوعي، تدلو بتنظيراتها.. والخ  .. الخ  .. (وان كنتُ لا أحبذ إستخدام هذه الكلمة اختصاراً !) 

لماذا؟ لأنَّ العهد الأجرب، كالوباء يعدي المرء بمجرّد ملامسته، مهما كانت درجة محافظته  على نفسه ! 

قد يكون للمرء أسبابهُ، أو أنَّه لا يعرف الجوّ العام للجريدة بعد تغيير إدارة التحرير، لكنَّ هذا لا يعفيه من المسؤولية، وهناك  من يشبه سلوكه ، سلوك بعض الإعلاميين العرب الذين حين يطمئنّ لهم بعض مثقفينا ويسألونهم: كيف توفّقون بين دفاعكم عن قضايا الإنسان، ووقوفكم في صف ( الدكتاتور) مع علمكم بجرائمه؟ فيكون الجواب الجاهز : إنَّ موقفه من القضية الفلسطينية مشرفٌ ! 

في يوم ٢٠١٦/١١/١ م  تحوَّلت جريدة ( التآخي) إلى جريدةٍ الكترونيةٍ  بعد تعذّر صدورها الورقيّ لأسبابٍ ماليةٍ . 

ظنَّ ( الأستاذ) أنّ الوسادة قد ثنيّت  له، فقرّر كتابة روايةٍ على طريقة رواية (زبيبة، والملك)، لكن ليست (لكاتبها) كما فعل (الرئيس القائد) وإنّما تظهر باسمه الصريح، يضع الأفكار على الورق، ويفتح حواراً طويلاً بين شخصيتين متوهّماً أنّ الرواية كالمسرحية عبارةٌ عن حواراتٍ طويلةٍ ! 

يضّطر إلى إعطاء روايته الملفّقة إلى  كاتبٍ، وروائيّ لمراجعتها أكثر من مرةٍ، وترقيعها، والطلب من لغويّ محترفٍ، التدخّل الكامل في الإضافة، والحذف، تمهيداً لطبعها. 

في يوم الإثنين الموافق ٢٠١٧/٧/١٠ م زفَّ رئيس الوزراء حيدر العبادي بيان النصر بمناسبة تحرير الموصل، وسقوط دولة الخرافة، وأمر بتعطيل الدوام يوم الثلاثاء ابتهاجاً بالنصر، وأدّى ذلك إلى تغيير مواعيد الإمتحانات الوزارية للصفوف الإعدادية، فيما هاجم الشاعر سعدي يوسف،  نائب رئيس جهاز مكافحة الإرهاب: ( عبد الوهاب الساعدي)؛ بدعوى أنَّ العمليات العسكرية دمَّرت الموصل  ! 

في يوم الأربعاء الموافق ٢٠١٧/٨/٢٣ م انتحر محرك ثلاجة بيتنا (الكونكرد) العليلة؛ لإصابته بما تسمّى بـ(رفسة البستم)، وهي الحالة الناتجة عن تبدّل الفولتية من تيار المولّدة إلى تيار الكهرباء الوطنية، وكانت كلفة إصلاحها ، وتبديل المحرّك الماليزي  مبلغاً قدره، مئةً، وخمسين الف دينارٍ، وأعطاني مُصلّح الثلّاجات، ضماناً بتصليح المحرّك لمدّة سنة ! 

الجمعة ٢٠١٧/٩/٢ م حلَّ عيد الأضحى من دون حوادثٍ بسبب التزاحم على شعيرة رمي الجمرات، أو غيرها، ووصل عدد حجّاج العراق، هذه السنَّة رقماً قياسياً بلغ ستةً، وأربعين الف حاجٍ، بزيادة اثني عشر ألف حاجٍ ، بسبب تحسّن العلاقات السعوديّة العراقيّة، بما يسمّى بشهر العسل السعوديّ العراقي. 

الثلاثاء ٢٠١٧/٩/٥ م نجح المنتخب العراقي بكرة القدم في إحراز فوزٍ شرفيٍّ على منتخب الإمارات بهدفٍ واحدٍ سجله اللاعب ( أيمن حسين) في الدقيقة الخامسة، والعشرين ( وليست الساعة الخامسة والعشرين) ، بقيادة المدرب الوطني باسم قاسم في آخر مباريات تصفيات قارة آسيا المؤهلة لنهائيات كأس  العالم بكرة القدم، لكنَّ هذا الفوز لا يكفي للصعود إلى النهائيات، وينطبق عليه قول الشاعر : (وجادت بوصلٍ ، حيث لا ينفعُ الوصلُ) !! 

ظلّت الاستعدادات تجري على قدمٍ، وساقٍ ؛ لاستفتاء إقليم كردستان العراق بشأن حقّ تقرير المصير برغم رفضه التام من الحكومة الاتحادية،  والمجتمع الدولي. 

مساء السبت الموافق ٢٠١٧/٩/١٦ م، جرى مؤتمر حوار المثقفين العراقيين في السليمانية، وشارك فيه  (الأستاذ)، رئيس تحرير جريدة (التآخي) ، وكان يستعدّ لإلقاء كلمةٍ عنوانها (الكورد ، وحق تقرير المصير) ، وقبل أن يأتي دوره للحديث داهمته سكتةٌ قلبيةٌ  في ثوانٍ ، وقضت عليه . 

يوم الإثنين ٢٠١٧/٩/٢٥ م جرى استفتاء الاستقلال في كردستان العراق، المؤجَّل منذ عام ٢٠١٤ م من دون حوادثٍ، وظهرت النتيجة أن (٩٢٪) من نسبة المشاركين في الاستفتاء أيّدوا الإنفصال عن العراق وتكوين دولةٍ مستقلةٍ. لكنَّ تركيا وإيران، وبالتشاور مع العراق، اتّخذتا خطواتٍ فعليّة لمواجهة نتائج الاستفتاء، فلم تعترفا به، ثم أغلقتا المنافذ الحدودية، وأوقفتا حركة الطيران. 

مساء الأحد ٢٠١٧/١١/١٢ م حدث هلعٌ في العراق بسبب حدوث ارتداداتٍ لهزةٍ أرضيةٍ بدرجة (٧)على مقياس ريختر لمدة نصف دقيقةٍ ضربت إيران والكويت، وحلبجة، وخلَّفت في إيران خمس مئة قتيلٍ، وأربعة آلاف جريحٍ، أمّا في العراق، فخلّفت ثمانية قتلى وستة مئة جريحٍ. 

دامت مدّة حكم (الأستاذ) منذ تولّيه رئاسة التحرير في آيار سنَّة ٢٠١٥ م، وحتى وفاته في أيلول سنَّة ٢٠١٧ م ثلاثين شهراً ، بل قل ثلاثين دهراً ، كان كلّ يومٍ يمضي، وهو على قيد الحكم ، يؤكد بانَّ الشر منتصرٌ ، والخير مخذولٌ.

وجدتُ سلواي في بعض أبيات الشعر ، فشعرتُ أنّ الشاعر يواسيني فيها خير مواساةٍ، ومن ذلك قصيدة الشاعر أبي فراس الحمداني (٩٣٢ م ـ ٩٦٨ م) المشهورة بعنوان (الدِّينُ مُخْتَرَمٌ، وَالحَقّ مُهْتَضَمُ ) خاصةً الأبيات التي يقول فيها :

   إنّي أبِيتُ قَلِيلُ النّوْمِ، أرّقَني

قلبٌ ، تصارعُ فيهِ الهمُّ والهممُ

و عزمة ٌ ، لا ينامُ الليلَ صاحبها

       إلا على ظَفَرٍ، في طَيّهِ كَرَمُ 

.. . يا للرجال ! أما للهِ منتصفٌ 

من الطّغاة ِ؟ أمَا للدّينِ مُنتَقِمُ؟!

فاتني أن أقول : إنَّ  الرواية الملفَْقة لـ(الأستاذ) قد طُبعت، ووزعت على نطاقٍ محدودٍ  واضطررتُ إلى  تمرير نشر عرضٍ عنها في جريدة (الإتّجاه الثقافي) التي أعمل فيها، لكنَّ  صاحب دار طبع الرواية اختفى ذات صباحٍ، وتلقى المتعاملون معهُ صدمةً كبيرةً  لخسارتهم ملايين الدنانير ـ على طريقة تجارة سامكو ـ  وقد تأكّدت الأجهزة الأمنيّة من هربه  إلى خارج العراق، فأصدر القضاء بحقّه مذكرة إلقاء قبض، وهو ملاحقٌ حتّى الآن من الإنتربول ! 

( السيرة مستمرةٌ .. شكراً لمن صبر معي.. يتبع) 

شروح صور 

١. كاتب السيرة مع المصمّم محمد مجيد، والمدير الفنّي أمير محمود حسن، بعد الحصاد ! 

٢. ما بقي من الزملاء في العهد الأجرب ! 

٣. الكاتب حسن العاني. 

٤. المدرب باسم قاسم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى