سيِّدة وتُرَاب وقُرنفُل ومَاء
د. إيهاب بسيسو | فلسطين
هذا القَلِيلُ المَدفُونُ في أَصِّيصِ قُرنفُلٍ
أَنت …
مُنذُ أن فَقَدتَ بَيتاً في الحَربِ
وصِرتَ تُراباً في حَدِيقَةٍ مَنزليَّة …
التَقَطَتهُ سَيِّدَةٌ وَحِيدَة
ثم عبَّأتهُ في أَصِّيصٍ
وغَرسَت مَعهُ بُذورَ القُرنفُل
ووَضعَتهُ في الشُّرفَةِ المُطِلَّةِ عَلَى الشَّارِعِ الطَّاعِنِ في الضَّبَاب …
لَأجلِ هذا كُنتَ عِندَما تُمطِرُ السَّمَاءُ تَهتِفُ يا أُمِّي
فأسمَعُك …
كمَا تَسمَعُك هِيَ فَتَظنُّ صَوتَك
صَدَى ابنِها الغَائِب …
وأظُنُّك أنَا
حين تَرتَعِشُ يَدِي فِي الصَّحوِ المُهمَلِ
قُربَ فِنجَانِ قَهوَةٍ فِي مَقهَى عَتِيق …
هذا القَلِيلُ المُكَدَّسُ فِي أَصِّيصِ قُرنفُلٍ
أَنت …
وأَنتَ …
إصغاؤك الغَامِضُ لحِكَايَاتِ بَعدَ مُنتَصَفِ اللَّيل …
يُرَدِّدُهَا الغُربَاءُ عَن مُدنٍ بَعِيدَةٍ
في مَقاهٍ مُزدَحِمَةٍ بالصَّخَب …
في اللَّيلِ الغَريبِ أرَى السَّيدَةَ
تَجلِسُ إلى أَصِّيصِ القُرنفُلِ
بِصَمت …
لم يَعُد غَرِيباً أن تَجلِسَ إلى وَجَعٍ خَفِيٍّ فِي الكَلِمَات …
كَي تُحدِّثَ تُرابَاً
مِن بَقَايَا جَسَد …
أو أن تَرَى فِي القُرنفُلِ وَقتَاً عَفوِياً
يَشقُّ جِدَارَ الحُزنِ
كَذَاكِرَةٍ لَم تُصَاب بالشَّيخُوخَةِ
أو الهَذَيَان …
في اللَّيلِ الغَرِيبِ أسمَعُ ضَحِكَاتٍ بَعِيدَة …
وبُكَاء …
وأرَى وَجهَ سَيِّدَةٍ يَخرجُ من الظِّلال …
لتَسقِي زَهرَ القُرنفُلِ بكَأسِ مَاء …
فأدرِكُ أنَّ أرَقاً مُلِحاً جَعَلَها تَرَاكَ فِي الغِيَاب
دُونَ حَاجةٍ لمَلامِحَ تَقلِيديَّةٍ
أو صُوَرٍ عَتِيقَة …
هُنَا أنتَ في الحُضورِ الجَدِيدِ
مَزِيجٌ من تُرَابٍ وحَيَاة …
تَنبضُ في القُرنفُل …
فتَبتَسِمُ السَّيدةُ لشُعورٍ خَفِيٍّ بأنَّ الابنَ الغَائِبَ
قَد عَاد …
وأبتَسِمُ لحَظٍّ مُرتَبكٍ
جَعَلنِي أرَاهَا وأرَاكَ في لَمعَةٍ خَاطِفَةٍ
بَدَّدَت قَليلاً من عَتمَةِ لَيلٍ
مُصَابٍ بالحيرَةِ
والضَّجِيج …
قَد لا يَكونُ الوَقتُ سِوَى مَجَازٍ عَفوِيٍّ …
بَينَ غَريبَين يَلتَقِيَان فِي التُّرَاب …
وقَد لا يَكونُ المَشهَدُ سِوَى نَزفٍ مُتَقطِّعٍ
في مُخيِّلَةٍ مُتعَبة …
كُلَّمَا تَذَكَّرتُك …
أو سَمِعتُ صَوتاً يُنَادِي مِن بَعِيد …
عَطشَان يَا أُمِّي …
فتَهرعُ السَّيدَةُ بَعدَ مُنتَصَفِ اللَّيلِ
إلى حَيثُ أنتَ …
وأنَا …
ونَحنُ …
بِكَأسِ مَاء …