أثر مضيء
منى مصطفى | كاتبة وباحثة – مصر
عندما أقرأ في كتب التراث ثم أقرأ في كتب المعاصرين، يكون الفرق بينهما في سرعة القراءة، كمن ركب ناقة ومن ركب سيارة، في كتب التراث تقف عند الجملة وتقلبها بعقلك تارة وبعاطفتك أخرى، فلا يرتد طرفك إليك إلا وأنت في ثراء للعقل ونشوة للعاطفة، وتزكية للنفس وفهم للواقع …، فإن لحديثهم بهاء، ولنفوسهم عظمة، ولكلماتهم خصوبة تتولد منها معانٍ ثرية تفتق ذهنك وتثير قلمك، ناهيك عن الأخلاق الناصعة التي تشع من تفسيرهم لدوافع البشر، فكثير من سلوكياتنا اليوم والتي تكاد تكون عادة نقترفها دون أن يتحرك فينا ساكن، كانوا يحسبونها أشنوعة لو صدرت عن رجل منهم ممن يطلق عليهم رجال!
ثم أننا لا نجد هذا العلم أو هذه الجدية خلّفت لديهم قسوة أو غلظة، بل تجدهم من أرق الناس عاطفة وأعلاهم مروءة وأشعارهم ومآثرهم تشهد بذلك!
دفعني لكتابة هذا المقال كتاب ( العود الهندي عن أمالي في ديوان الكندي) لعلامة حضر موت ومفتيها ( السيد عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف ) الكتاب يقع في 832 صفحة من الحجم الكبير مع الفهرس، طبعة دار المنهاج، الكتاب يعد أثر مضيء في جبين صاحبه رضي الله عنه، ويدل على غزارة علم بمقياسنا المعاصر لا يحصّلها أحد، فهذا الكتاب بهذا الحجم عبارة عن محتوى المادة الترفيهية التي كان يتناولها المؤلف مع طلابه بين الدروس، أو ترويحا للعقل بين مجالس العلم وبعضها!، فلننظر كيف كان ترفيههم!
الكتاب تناول ديوان المتني لا من حيث القصائد بل من حيث المعاني، يأتي ببيت في معنى شائع عند العرب كالفراق أو الوقوف على الأطلال …، ثم يذكر الشعراء الذين تناولوا هذا المعنى قبل أو بعد المتنبي، ويفاضل بينهم في حسن التعبير والصياغة موضحا بلاغيا سبب استحسانه لصياغة عن أخرى … ثم يذكر من طرائف العرب أو تاريخهم ما يوافق ذلك المعنى، بل ويأتي بأبيات المتنبي الأخرى التي ورد فيها نفس المعنى مفاضلا بينها
قُسِم الكتاب إلى خمسة عشر مجلسًا، عرض في المجلس الثاني على سبيل المثال قول المتنبي في ذكر الديار: أهلاً بِدارٍ سَباكَ أَغيَدُها أَبعَدُ ما بانَ عَنكَ خُرَّدُها
ثم أتى بأشعار المتنبي في هذا المعني ( الوداع والفراق والوقوف على الأطلال) ثم أتبعها بأبيات تناولت هذه المعاني لشعراء من عصور مختلفة مثل:
أقلّبُ طَرْفي في السماءِ لعلّهُ يوافقُ طرْفي طَرْفَها حين تنْظُرُ
وأستعرضُ الركبانَ مِن كل وجْهةٍ لعلّي بِمن قد شمّ عَرْفَكِ أظْفَرُ
وأستقبلُ الأرواحَ عند هَبُوبها لعلّ نسيمَ الرّيحِ عنكِ يُخَبِّرُ
وفي ثنايا حديثه يعرض جانبًا من طرائف العرب الممتعة كقول أحد النساك ـ أتى للحج ماشيًا ـ عندما سُئل: من أي الظهر ركوبك؟ (يقصد من أي أرض جئت) فقال: ذلول! يكّني بها عن الأرض من قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ )
ولا يفوت المؤلف أن يأتي من الأثر بما يؤكد معنى البيت موضع المجلس كقوله: ويروى عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه إذا أبصر درجات المدينة حرّك دابته من حبها وشوقه للوصول إليها … وهكذا يسير الكتاب حتى يصل للمجلس الخامس عشر يجول في كل المعاني التي تعرفها النفس الإنسانية…
الكتاب أهداه لي طالبتان توأم، خرجتا من بيت علم وأدب، ولمست حرص والديهم على تدريبهما على القراءة، فكنت أوجههم بشكل مكثف للقراءة، وفي آخر يوم لهما في المدرسة وجدتهما وضعتا الكتاب على مكتبي مع إهداء انشرح له قلبي …، فالبر لا يبلى والديان لا يموت، فكن ذا أثر مضيء ولو في نفوس أهلك وعشيرتك الأقربين.