المركوب (قصة قصيرة)
شوقية عروق منصور- |فلسطين
“طول عمرك مركوب ” ابتسم واعتبر كلماتها نوعاً من الغزل الأنثوي المغسول بغضب عابر، لكن هي قصدت أن تطعنه في رجولته لأنها سئمت ابتسامته الساذجة المغموسة بزيت الذل الممسوحة بفرح غبي.
ألقى تحية الصباح على أمه، التي وجدها واقفة تنتظره أمام الباب، لم ترد عليه، مضى إلى عمله، لا يريد أن يشغل باله بامرأة عجوز وزوجة أرادت ان تبدأ اليوم بشجار وصراخ واتهام أنه يتعاطف مع أمه.
كان لقبه ابن أمه، حيث أصرت بعد موت والده أن لا تتزوج رغم أنها كانت صغيرة السن وجميلة، لم تستغل شبابها للبحث عن زوج ثان، رهنت حياتها له ولتربيته، لكن بما إن أمه شابه فعليها أن تعيش في كنف أسرتها، من العيب أن تعيش لوحدها، لأن هناك من سيطمع فيها وفي وحدتها المكللة بسهر الليالي وجفاف القلب والجسد.
لقد تربى في بيت جده والد أمه، ومقابل التربية كان هو الخادم الصغير، يلبي الأوامر ويقدم الطلبات ويشتري ويعمل ويدلل الأطفال الذين يأتون كلما تزوج أحد أخواله أو خالاته، البيت الكبير يضيق، وروح الجد تحولت إلى خرف أو ضياع محاصر بالعيون، خاصة عيون أمه الحريصة على سمعة العائلة التي ترفض جنون الجد، حتى الجيران نظروا إليه أيضاً كخادم، نسي طفولته وبقي يحارب بسلاح الطاعة وطأطأة الرأس ليجد مكاناً لوجوده في العائلة، إنه يحمي أمه من نظرات الأخوال التي تشق التطفل الذي ينخر كالسوس، وتحوله إلى تساؤل عن وجودها الغريب الذي يسرق منهم مساحة من البيت، ويحتل الأجواء التي كان من المفروض أن تقع تحت خطوات الرحيل والابتعاد عن البيت.
حتى زواجه كان من منطلق رد الدين لخاله الذي كان يعطف عليه، وترميم الوضع المقلوب الذي أفرزته الظروف نتيجة موت أبيه، تزوج ابنة خاله القوية المسترجلة فقد وجد فيه خاله وزوجته، الزوج الذي يستطيع تحمل ابنتهم دون تذمر، وتحمل تصرفاتها التي هي أقرب للوحشية .
أمه تؤكد له أن زوجته تنظر إليه كالحمار، إنه يطيعها ويلبي طلباتها ويقبل إهانتها، وزوجته تقول: أنت حمار أمك، هي تستعبدك، وتتدخل في شؤونك، ولها طلبات غريبة، يعني إذا هي لم تتزوج لازم تتحملها طول عمرك.
يومياً يمر بهذه الصور الصباحية، زوجته تتكلم عن أمه وأمه تتكلم عن زوجته كأنهما في ساحة معركة، لا يجيب، يرسم ابتسامة على شفتيه بمقياس يجبرها على الصمت، وإذا تمادت بالكلام يزيد من مقياس الابتسامة حتى ينهي فطوره، خلال نزوله من بيته في الطابق الثاني يحاول أن لا يسمع لأمه التي تقف له بالمرصاد أمام بيتها في الطابق الأول، يبتسم لأمه، التي تتكلم بسرعة، كأنها تريد حشو العبارات في أذنيه، لكن هو يزيد من ابتسامته ، فتكشر وتشتمه وتقول له: واحد مركوب .
في العمل هو على موعد مع الجثث الباردة التي تنتظره في ثلاجة حفظ الموتى، هو يعمل سائقاً على سيارة نقل الموتى، ينقل يومياً جثث الموتى من المستشفى إلى بيوتهم، والتي غالباً ما يستقبله أهالي الموتى بالصراخ والعويل والدموع، وحين يدخل النقالة التي يرقد عليها الميت إلى داخل البيت يسقط في أحضان المتواجدين الذين يريدون الاقتراب لرؤية الميت، يركبونه ويسحقون جسده وهم يتدافعون لرؤية الميت، المسجى أمامهم، ويلعنونه في سرهم لأنه حامل الموت .
تكونت صداقة بينه وبين الناس ووجوه الأموات الصفراء التي تميل إلى اللون الازرق والدموع والإهانات والنواح، ووجد أن هناك من يكرهه، يبغضه، لأنه يعرف لحظات ضعفهم، فالحزن قمة الضعف، وأصبح للبعض الآخر عجينة التشاؤم التي تخبز صباحاً وتلتصق طوال اليوم، فعندما يرونه صباحاً يتشاءمون حتى أنهم يغيرون طريقهم حتى لو كانوا في طريقهم لعملهم.
في سيارة نقل الموتى هو الراكب القوي، هو ملك الحياة يقود الموت، زمام الأمور بيده، السرعة، البطء، الغناء، يغني يرفع صوته بالغناء، يملك عدة كاسيتات في السيارة يضع أحدها عندما يواجه الهروب من فكرة قيادة الموت، خاصة إذا كان الميت بدون أقارب ولا أحد ينتظره، تسري الموسيقى في دمه، يشتعل إيقاعها فيستغل وجود الجثة التي تئن من الوحدة، ويذهب بها إلى شاطىء البحر، يقف متأملاً الأمواج والأفق الذي يحتضن السماء والبحر .
هذا الصباح ادعت زوجته بأنه مركوب، وأمه عايرته بأنه مركوب، في المستشفى جلس في المقصف يشرب القهوة، يغسل الصباح المشرق ببعض البن الأسود، ما دام اللون الأسود سيقف أمامه طوال اليوم .
ينتظر تجهيز أوراق الميت، بعد قليل سيحمل الأوراق التي ستتحول إلى رقم يضيع مع الأرقام التي تؤكد عدد الوفيات في الدولة، نادته المسؤولة وناولته العنوان، الجثة لعجوز لا أقارب له، عليه توصيلها لأحد بيوت العجزة في المدينة المجاورة، وبينما هو يغلق الباب الخلفي للسيارة ويستعد للسير، فكر لماذا لا يأخذ زوجته معه، لعلها تخرج من قوقعتها البيتية، تكلم بالهاتف معها وطلب منها تحضير نفسها، قال لها سيمر بعد دقائق ويأخذها، وأضاف وهو يقهقه أنه سيأخذها مشوار إلى المدينة المجاورة .
مرت زوجته من أمام باب بيت أمه أطلت الأم، فتحت الباب على مصراعيه وقالت:
– الصبح قلت عنك مركوب لمرتك..!! خجل وطلب منها أن تجهز نفسها سيأخذها معهم بالسيارة إلى المدينة المجاورة .
فتحت باب السيارة رفضت أمه أن تجلس في الكرسي الخلفي، أصرت أن تجلس إلى جانبه ، كذلك زوجته أصرت أن تجلس الى جانبه لا تريد الجلوس بالخلف.
تشاجرت أمه وزوجته تعاركتا فوق الجثة، لم يتكلم، لم يحاول الفصل بينهما، ضربته أمه وقالت مركوب لمرتك، ضربته زوجته وقالت مركوب لأمك .
تركهم ونزل من السيارة، جلس على حافة الطريق، ثم رجع الى السيارة ووضع كاسيت أغنية ليلى مراد (الدنيا حلوة نغمتها حلوة).
نظر إلى أمه وزوجته، ما زالتا فوق الجثة تتعاركان .