عورة (قصة قصيرة)
فاتن فاروق عبد المنعم | قاصّة من مصر
عائلة ماسية الأصل مخملية التكوين، يشوبها ابن ثقلت الحروف على لسانه فلا يفهمه سواهم، فاره الجسد، موفور الصحة، وسيم الملامح وأعطب ملاحته نظرات الدهشة التي لا تبارحه، شفتان منفرجتان أغلب الوقت وعيون مفتوحة عن آخرها متصلبة تتنقل حدقتيها ببطيء علها تهتدي، وإيماءات تشير إلى الرغبة في الاكتشاف المستمر لذا حرصوا على إخفائه دائما عن مجتمعاتهم فإن كان لديهم الاحتفال بمناسبة ما أخفوه حتى لا يراه أحد فيتسبب وجوده في إحراجهم، كثيرا ما أظهر تبرم من نوع ما من سجنه الحريري كأن هذه الخيوط تذبحه ببطيء فلا يكفيه اللعب في حديقة المنزل بمختلف الألعاب المتاحة له.
لولا صوت عبر الهاتف قلب الموازين بوفاة الأم والأب في حادث، ففرغ البيت إلا منه فأغفل حارس البيت وخرج من البوابة التي كانت موصدة بصفة دائمة، يعدو ناظرا خلفه خوفا من أن يعقبه شخص ما فابتعد وابتعد عن البيت يعدو مرة أخرى كخيل في سباق، تصارعت أنفاسه وسمع صوتها، توقف وجلس على مقعد انتظار الحافلات ليستريح، هدأ ارتجاج صدره فعاد لمواصلة السير توقف أمام عربة فول يتحلق حولها بعض الآكلين فاتخذ موضعه بجانبهم بأحرفه المتعثرة أعرب عن رغبته في طبق فول فاستجاب له البائع ووقف يأكل بنهم بينما رفقائه مع البائع تبينوا حقيقته من أول نظرة، أنهى طعامه وعاد للسير على غير هدى ولم يسأله البائع ثمن ما استطعم.
لأول مرة لا يأكل بميعاد وقائمة مجدولة باليوم والساعة، لأول مرة لا يخضع لجلسات طبيب التخاطب ولا لمعلمته التي تعلمه سلوكيات تحفظ آدميته من الدخول إلى الحمام لقضاء حاجته والحديث بأدب وتحفيظه مفردات تليق بعائلته وطريقة استخدام أدوات المائدة والأكل باليمين والتسمية قبل البدء بالطعام وحمد الله بعد الانتهاء من طعامه، لأول مرة سيتحرر من حموم الصباح والمساء، لأول مرة لن تفحصه أمه، فتلحظ عيناه المحمرة أو لاحظت ارتفاع درجة حرارته فتستدعي طبيبه ليصف له الدواء المناسب، كأنه مزق تلك الخيوط الحريرية التي كانت تؤلمه بحدتها.
مر بكولدير شرب بالكوب البلاستيك المتسخ وهو الذي لم يشرب يوميا إلا من كوب زجاجي يبرق كأنه الماس والماء بداخله كأنه اللؤلؤ، أخذ يتأمل الكوب البلاستيك المتسخ كأنه أثر يبهر الناظر إليه، وعاد لمواصلة المسير فتوقف أمام اثنان يتجولان بطبلة ومزمار بلدي يستجديان بعض العملات القليلة من المتحلقين حولهما، كل منهما يرتدي الجلباب البلدي، كل منهما يعزف على آلته فحرك العزف جوارحه فأخذ يرقص رقصا عفويا بوهيميا كمن حل من الغابة ولم ير المدينة قط حتى عندما ابتعد عنهما ظل على نوبة الرقص المفضي إلى الصعلكة فقد كان يحرك ذراعيه وساقيه يبادلهما الرفع والخفض ويميل بجذعه ويدور حول نفسه كثيرا كأنه يجرب مرونة أعضائه المقموعة كأنه كان حبيس كبسولة معقمة، وقع على الأرض بعد أن فقد توازنه من كثرة الدوار والترنح عبثا، تقلب على الأرض كأنه غاب عنها ردحا من الزمن وحان اللقاء المفضي إلى التمسح بترابها ليعلق بملابسه ووجهه وساعديه وراحتيه ويمتزج بحبات العرق التي انبثقت من جسده الذي حال دون تحررها طيلة حياته مبردات الهواء المعلقة في أركان بيت أسرته فيسفر هذا الاتحاد عن تلبك التراب ليصبح مايشبه مسحات من الطين استدعت أمارات الدهشة على ملامحه بصورة أكبر فتوقف عن أي فعل محاولا استيعاب ما يرى واستغلق عليه الفهم وكيف يفهم وهو الذي كان دوما الخبأ الذي وارته أسرته، واصل السير العبثي بين هذه الكيانات التي قدت من الشقاء والصبر الذي أرخى سدوله على تلك الوجوه التي اكتشفها حديثا ليجد نفسه يأكل ما يأكلون ويشرب ما يشربون لدرجة أن علامات الدهشة ازداد أوارها بعد مغادرة كبسولته المعقمة، وقف مثلهم عند بياع عصير القصب وأشار بحروفه المتعثرة عن رغبته في كوب عصير ولم يضيق البائع به بل استجاب في حبور، خطوات معدودة ووجد بعض القلل التي يقترب منها الباعة الجائلين والأرزاقية ليشربوا وبعد تأمل لفعلهم ليحفظ الفعل الذي قام به على الفور فرفع إحداها على فمه، تطربه سيل الماء المتدفق منها فيستزيد كمن لم يشرب من قبل حتى سال الماء على عنقه وواصل السير حتى بلغ صدرره وبلل ملابسه ولم يبالى بالماء الذي بلغ سرته، فقط سعيد بكشفه الجديد، يجول بعينيه لتتأكد الصورة الجديدة داخله، كأنه يرغب في أن يسأل وإن جهل المفردات المرتبة لماذا غاب عن الحياة الحقيقية كل هذا الوقت؟ المصل الواقي من المرض يكون جزء من الميكروب المسبب للمرض فهل الفطرة داخله عبرت عن نفسها في الحصول على المناعة التي بها يقاوم الأمراض؟ هل هذه الكيانات التي يراها عبارة عن شياطين؟ كل منا بداخله ملاك وشيطان يتصارعان ومن يتغلب منهما على الآخر يفرض سلوكه وسمته على ابن آدم.
داهمته الرغبة في النوم فألقى بجسده على الحشائش في حديقة عامة تحت ظلال شجرة سدر وارفة واستيقظ والشمس تجمع دثارها من على جسد الكون ليتلبثه دثار آخر نقيض الشمس الفاضحة.
يسير على غير هدى مستمرا في عملية الكشف التي تسفر له عما خفي عنه طيلة سنوات عمره،
صوت جماعي يبلغ سمعه، يتحرك صوبه كأنه يرسم له على الأرض خطا يسير عليه كي يبلغ جمعهم، محيط بشري مترامي، توقف أمامهم يهتفون بصوت واحد ومفردات واحدة، متفق عليها من قبل، ولج المحيط غير هياب، يحتوونه، يجلس بينهم كمن غاب عنهم ردحا من الزمن ووجب الحضور بينهم، ووجد نفسه أليف يؤلف بين جمع تعارف معهم وما تناكر بينهم، إنه مرج الحرية التي يتوق إليها دون أن يعرف حروفها أو معناها، إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها حتى عند من خيم علي عقله الضباب منذ ميلاده.
وبحروف مثقلة ردد ما يقولونه دون استفسار، إذا ساروا سار معهم وإذا توقفوا توقف معهم، الآذان رفع فوق المئذنة قاموا للوضوء وقف مصطفا معهم يتوضأ ناظرا إليهم يفعل كما يفعلون ثم عاد ليتخذ موضعه بينهم يطيل النظر إليهم، الإمام يكبر تكبيرة الإحرام فيعقبونه في التكبير لبدء الصلاة، يفعل مثلهم، يقبلون على طعامهم يعطونه لفافة كما لكل منهم، يعودون للهتاف ويشتد ويزداد أواره مع التلاقي بنقيضهم، يمارس معهم الكر والفر، يتفرق جمعهم قسرا بسبب ذلك الدخان المتصاعد فيبتعد معهم ثم يعودون للولوج في مرج النارالذي يحتويهم فيعود معهم غير هياب.
عاد الالتحام بين النقيضين، السماء تمطر عليهم وابلا من سجيل فتسجى الأجساد على الأرض وقد يتفرق جمع أبعاض الجسد الواحد وقد تلتهم النيران أمواتا وأحياء فتخلف تماثيلا من فحم.
غيب مع من غيبوا لا يعرف في أي فئة يعد، فئة الأبعاض المتفرقة أشلاء أم تماثيل الفحم أم واحدا مما كتب على جثمانه “مجهول” فقط ذاب في هذا المرج وقام إخوته للمرة الأولى بنشر صوره ووصف حالته بدقة والإعلان عن اليوم الذي تغيب فيه وتخصيص مكافأة مالية كبرى لمن يعثر عليه أو يدلي بمعلومات عنه، لأول مرة يسفرون عن عورتهم كاملة ولا يرغبون في التواري وأخذوا يلصقون صوره على الأعمدة وواجهة المباني بالشوارع ومواقع التواصل الاجتماعي ولكنه ذاب في الطوفان الذي أصاب المرج.