الأدب في الكتاب المقدّس
أ. سامي قرّة | فلسطين
قبل حوالي أربعة قرون ونصف القرن رسم الرسّام الإيطالي المعروف مايكل أنجلو جدارية سقف كنيسة سيستين في مدينة فلورنسا الإيطالية إبان عصر النهضة. وقبله بعدة سنوات رسم مواطنه ليوناردو دافنشي لوحة “العشاء الأخير”.
وقبلهما بحوالي مائتي عام نحت الفنان الهولندي كلاوس سلوتر تماثيل “بئر موسى” التي تجسّد شخصية النبي موسى والملك داود والأنبياء إرميا وزكريا ودانيال وأشعياء. وفي أوائل القرن السابع عشر كتب الشاعر الإنجليزي جون ميلتون ملحمته الشهيرة “الجنة المفقودة”. وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر وضع المؤلف الموسيقي جورج فريدريك هاندل أوراتوريو “المسيح”.
جميع هذه الأعمال تتناول مواضيع مستوحاة من الكتاب المقدّس وتكشف تأثر أصحابها بالروايات المثيرة التي يحتوي عليها الكتاب المقدّس والشخصيات التي تتحدّث عنها تلك الروايات.
بالفعل كان وما يزال للكتاب المقدّس أثر بالغ على كثير من الأدباء والفنانين خاصة في الغرب. لكن أهم من ذلك أن الكتاب المقدّس هو في حد ذاته عمل أدبي فريد من نوعه.
فقد كان الرأي السائد في عصر النهضة في أوروبا أن الكتاب المقدّس هو أيضًا عمل أدبي ممتع يحتوي على أنواع أدبية متعددة منها الأساطير والقصص الملحمية والشعر والحكايات والحكم والأمثال والرسائل وغيرها، كما أنه يشكل الأساس الذي نشأ عليه الأدب الغربي والبئر الذي شرب من مياهه عدد كبير من الأدباء والفنانين في اوروبا (إضافة إلى الأدب الكلاسيكي اليوناني واللاتيني بالطبع).
ومنذ سبعينات القرن الماضي بدأ العلماء باتباع النهج الأدبي وتطبيق النظريات الأدبية الحديثة في دراسة نصوص الكتاب المقدّس وتحليلها وإظهار أثره على الأدب الغربي. ففي العام 1981 مثلًا صدر كتاب للمؤلف الكندي نورثروب فراي بعنوان “المدّونة الكبرى: الكتاب المقدّس والأدب” والذي يتحدّث فيه عن الطبيعة الأدبية للكتاب المقدّس وأثره على الفكر الغربي. ولهذا السبب أوصي طلابي الذين يدرسون الأدب الإنجليزي بقراءة الكتاب المقدّس كاملًا وإلا سيجدوا صعوبة كبيرة في فهم ما يقرأون. وكما يقول فراي إن الطالب الذي يدرس الأدب الإنجليزي ولم يقرأ الكتاب المقدّس لا يفهم الكثير مما يقرأ.
من ناحية أخرى، لم يحظى الكتاب المقدّس في عالمنا العربي بقسط وافر من الأهمية من الناحية الأدبية لأنه أصلًا لم يُكتب باللغة العربية. فقد كُتب الكتاب المقدّس باللغات العبرية واليونانية وأجزاء منه كُتبت باللغة الآرامية، وعلى مرّ التاريخ ظهرت عدة ترجمات لأجزاء من الكتاب المقدّس باللغة العربية أمّا الترجمة الأولى الكاملة له فقد ظهرت لأول مرة باللغة العربية في القرن السابع عشر.
وفي أدبنا الفلسطيني نرى أن العديد من الشعراء الفلسطينيين أمثال محمود درويش وفدوى طوقان وسميح القاسم يستخدمون رموزًا من الكتاب المقدّس في قصائدهم غنيّة بالدلالات التاريخية والتراثية والوطنية، فنرى مثلًا الشاعرة طوقان تستخدم التناص في قصيدة لها بعنوان “إلى السيد المسيح في عيده” ترثي فيها مدينة القدس وهي تُجلد وتنزف دمًا بسبب قهر الاحتلال لها: “القدس على درب الآلام/تُجلد تحت صليب المحنة/تنزف تحت يد الجلاد/والعالم قلب منغلق/دون المأساة”.
وكذلك يستحضر الشاعر القاسم يشوع بن نون كي يجسّد فكرة مقاومة الاحتلال والصمود في وجهه فيقول: “يهوشع مات/فلا تستوقفوا الشمس، ولا تستمهلوا الغروب/ سور أريحا شامخ في وجهكم إلى الأبد/يا ويلكم! يا ويلكم!”
النثر والشعر هما الوسيلتان اللغويتان الأساسيتان اللتان نستخدمهما في التواصل الأدبي. والنثر هو أقرب إلى اللغة المحكية أمّا الشعر فيتسم بتعابير لغوية خاصة. وللأدب وظائف عدة منها نقل المعلومات وإثارة العواطف وتحفيز الخيال. ولذلك لا عجب أن السواد الأعظم من الكتاب المقدّس مكتوب نثرًا وذلك لأن مؤلفيه لديهم رسالة يبغون نقلها إلى بني البشر.
ويأتي النثر في الغالب على شكل سرد قصصي وجميع الأحداث في القصة الواحدة تتبع منطقًا معينًا يعتمد على السبب والنتيجة، أي أن كل حدث يؤدي إلى ظهور حدث جديد. فالقصص المثيرة التي نقرأ عنها في العهد القديم مثل قصة إبراهيم وسارة وإسحق ويوسف وموسى وعبور البحر الأحمر وداود وجليات وتراجيديا شمشون ودليلة وأمثلة السيد المسيح في العهد الجديد وغيرها جميعها تحف أدبية كان لها أثر كبير على الروائيين والشعراء على مر العصور.
أمّا ديناميكية السرد القصصي في الكتاب المقدّس فلها ذات الخصائص التي نجدها في أي عمل روائي آخر وتتشكل من الحبكة والشخصيات والبيئة وصوت الراوي. سأتحدث عن كل واحدة من هذه الخصائص باختصار شديد جدّا والاستشهاد بالأمثلة معتمدًا على سفر يونان.
تشير الحبكة إلى الأحداث المتتالية يتخللها صراع معيّن ولها نهاية يحددها مسار الأحداث وتسلسلها، وعلى القارئ أن يقرر بنفسه كيف ترتبط تلك الأحداث بعضها ببعض وتساهم في خلق القصة. فإذا أخذنا قصة يونان مثالًا نرى أن الصراع في القصة يتضح في الأيات الثلاث الأولى من الأصحاح الأول: “وصار قول الرب الى يونان بن امتاي قائلا: قم إذهب الى نينوى المدينة العظيمة وناد عليها لانه قد صعد شرهم أمامي. فقام يونان ليهرب الى ترشيش من وجه الرب فنزل الى يافا ووجد سفينة ذاهبة الى ترشيش فدفع اجرتها ونزل فيها ليذهب معهم الى ترشيش من وجه الرب”. فالرب يأمر يونان أن يذهب إلى نينوى لكنه يرفض ويهرب على متن سفينة مبحرة إلى ترشيش، فهو يهرب لأنه يكره الأشوريين.
تنقسم الحبكة في سفر يونان إلى أربعة أحداث. الحدث الأول يزيد من حدّة الصراع بين الله ويونان، فعن طريق هروبه إلى ترشيش يحاول يونان الهروب من الله لكنه يُدرك لاحقًا أن هذا مستحيل. ويرمي البحارة يونان في البحر. أمّا الحدث الثاني يبيّن بوضوح عجز يونان في محاربته إرادة الله، لكن الله ينقذه من الغرق ويبعث له حوتًا كبيرًا كي يبتلعه. وبطن الحوت يوفر ملجأ آمنًا مؤقتًا ليونان حتى يقذف به إلى الشاطئ. يتجه بعد ذلك يونان إلى نينوى.
وفي الحدث الثالث نرى يونان ينفذ مشيئة الله لكن رغمًا عنه كما تعكس العظة القصيرة جدًا التي هي بمثابة تحذير (خمس كلمات فقط) يتلوه يونان على أهل نينوى وعلى إثر ذلك يرجع أهل نينوى عن المعصية وطريق الرديئة وينجيهم الله من الهلاك، لكن الصراع بين يونان والله لا ينتهي هنا إذ يغضب يونان كثيرًا على خلاص أهل نينوى ورحمة الله لهم.
وفي الختام أي في الحدث الرابع يسأل الله يونان: “أفلا أشفق على المدينة العظيمة”؟ بالطبع لا يجيب يونان على هذا السؤال لأنه سؤال بلاغي ويستنتج القارئ من نهاية القصة أن رحمة الله هي الأساس.
كي نفهم القصة جيدًا لا بد أيضًا من دراسة الشخصيات التي نواجهها في القصة. ولا بد من الإشارة هنا إلى العلاقة الوثيقة بين الشخصيات والحدث لأن الشخصيات هي الوسيلة التي بواسطتها تتولد الأحداث وهي أيضًا في نفس الوقت التي تتأثر بما يحدث. ونتعرف على الشخصيات عادة من افعالهم واقوالهم لكن عن طريق الراوي الذي يعمل وسيطًا بين القارئ والشخصيات.
وقد يختار الراوي أن يُظهر الكثير من خصائص الشخصيات أو القليل منها. إذا عدنا لقصة يونان فمن الواضح ان يونان هو الشخصية الرئيسية أمّا خصومه فهما الله وأهل نينوى، وأمّا البحارة فعلى الرغم من أنهم وثنيون إلا أنهم يخافون الله الذي يؤمن به يونان على عكسه تمامًا. نعرف الكثير عن شخصية يونان وشخصية الله لكن لا نعرف شيئًا عن شخصية البحارة. ومن خصائص السرد في الكتاب المقدّس أنه يتميز بما يمكن تسميته بالاقتصاد اللغوي، فلذا يقتصد الراوي كثيرًا في وصف الشخصيات كما أننا لا نجد تفاصيل كثيرة عن الدافع الذي يؤدي بالشخصيات إلى التصرف بطريقة ما؛ فهذا متروك للقارئ الذي عليه مسؤولية ملء الفراغات في السرد.
تشكل البيئة عنصرًا هامًا في القصة، وباختصار تشير البيئة إلى الحيز المكاني والزماني الذي تؤدي فيه الشخصيات دورها. وللبيئة وظائف اساسية إذ أنها تضفي واقعية على القصة وتساهم في إنشاء المزاج العام لها وخلق ثيمتها.
لا نعلم مكان وجود يونان عندما أمره الله بالذهاب إلى نينوى لكن نقرأ أن يونان يهرب من نينوى ويبحر إلى يافا في البحر الأبيض المتوسط وهذه جميعًا أماكن حقيقية وليست من بنات خيال الكاتب أو الراوي. ومن الأماكن الأخرى التي نقرأ عنها في قصة يونان بطن الحوت. يتحدّث يونان مع الله ويصلّي له من بطن الحوت وهذا يبيّن سيطرة الله على البحار ومخلوقاته، وأن يونان ليس له أي مكان على الأرض يختبئ فيه من وجه الله.
هنالك دائمًا حكواتي يسرد أحداث القصة للقارئ هو الراوي وهو الذي يتحكم بمجريات ما يحدث. والراوي هو مجرد أداة يستخدمها الكاتب كي يقود القارئ عبر خارطة طريق الأحداث، وهو أيضًا يحدد الطريقة التي يستجيب عبرها القارئ لما يقرأ وكيفية تفاعله مع الأحداث. والراوي في قصص الكتاب المقدّس لا يتدخل بما يجري من أحداث وهو دائمًا يتحدّث بصيغة الغائب كما أنه يعلم كل صغيرة وكبيرة ممّا يحدث. فنحن نرى ما يحدث في قصة يونان من وجهة نظر الراوي الذي لا يخفى عليه شيء ولذا نثق بما يقول.
نشأت في مدرسة كاثوليكية وأتذكر بوضوح عندما كنت طالبًا في المدرسة كان مدرّس التربية الدينية يشدّد فقط على القيمة الروحية للكتاب المقدّس ويتجاهل قيمته الأدبية. وكان أسلوب التعليم يرتكز على السؤال والجواب.
ومن الأسئلة المتكررة التي كان يطرحها المدرّس ما يلي: ما هو الخلاص؟ ما هي الخطيئة الأصلية؟ ماذا علينا أن نفعل كي نرث الحياة الأبدية؟ ما هي الخطايا السبع المميتة؟ وغيرها من الأسئلة التي إن أخطأنا في الإجابة عليها كنا في خطر هدر فرصتنا في التحليق عاليًا إلى ملكوت السموات والانزلاق إلى الهاوية إلى أحضان جهنم. لم نتعلّم أن الكتاب المقدّس فيه الكثير من الشعر الغنائي؛ لم نتعلّم أن السرد الروائي في الكتاب المقدّس يمتاز بالتكرار والحذف والمفارقة اللفظية؛ لم نتعلّم أن الكتاب المقدّس مكتوب نثرًا وشعرًا؛ لم نتعلّم أن قصص الكتاب المقدّس فيها عناصر الحبكة والمكان والشخصيات كأي قصة أخرى؛ لم نتعلّم أن أمثال السيد المسيح يجب أن تؤخذ مجازيًا وليس حرفيًا؛ لم نتعلم أن الكتاب المقدّس هو بمثابة وثيقة اجتماعية تتحدث عن مجتمع زراعي رعوي؛ لم نتعلّم أن الكتاب المقدّس يخضع لتفاسير عدة؛ وغيرها من الخصائص التي تجعل من الكتاب المقدّس إرثًا لغويًا وأدبيًا استثنائيًا.
أصبح الكتاب المقدّس جزءا هاما من ثقافتنا الروحية، وعندما نقرأ الكتاب المقدّس نركز دائمًا على الجانب الروحي (وهو أصلًا وُضع لهذه الغاية) وقلما نُبدي أي اهتمام بالجانب الأدبي والتحليلي لما نقرأ. لكن مؤخرًا ازداد الاهتمام بالجانب الأدبي ومنه القصصي للكتاب المقدّس وظهرت دراسات كثيرة تبحث في هذا الموضوع.
أمّا التفسير الروحي للكتاب المقدّس فهو ذلك التفسير الذي تفرضه علينا الكنيسة، وهو ليس نتاج بحث ذاتي يقوم به القارئ عبر تفاعله مع الكلمات التي تقفز أمام عينه وهو يقلب صفحة بعد أخرى من الكتاب المقدّس.