يوميات رجل من صعيد مصر (4)

يوميات رجل من صعيد مصر (4) عم الذوق

د. عماد الدين علي ماهر

لم تكن القرية في ثمانينيات القرن الماضي كالقرية الآن؛ فرفاهيه السيارات المركونة أمام كل منزل والمنازل المبنية جميعها بالمسلح (الأسمنت والطوب الأحمر)، لم يكن يملكها الكثير في قري مصر، وكأن الرفاهية والتباعد الأسري والاجتماعي صنوان أتيا معا بعد حرب تحرير الكويت في التسعينيات، كان كل شيء بسيطا بساطة الحب المنتشر بين الناس والذي كان يغذي شرايين وأواصر الوطن.

فقد كان في قريتنا مثلا جزارين أو ثلاثة، وجزار في كل نجع من نجوعها، ولكن الجزار الأشهر والأوسع صيتا وشهرة كان (عم الذوق)، الرجل الخمسيني ذو الشنب الأصفر المفتول والعيون الخضراء والوجه الأحمر كان جزار قريتي الأول بلا منازع، فالوجهاء والموظفين وأصحاب الرواتب الحكومية الشهرية ممن يستطيعون دفع الست جنيهات ثمن كيلو اللحم هم زبائنه، وكان والدي وجدي من هؤلاء الزبائن بحكم أن والدي موظف وجدي ناظر مدرسة على المعاش يزد معاشه قليلا عن الـ١٠٠ جنيه وهو مبلغ محترم آن ذاك.

كنت صغيرا عندما كنت أذهب مع والدي لحمل اللحم من عند (عم الذوق) الذي يجاور منزله المدرسة الإعدادية التي يعمل بها والدي، وقد كان والدي صديقا مقربا من الرجل الأهم يوم الخميس لكل بيت في شرق البلد وكل من ستشتم من منزله روائح اللحم المطبوخ، وإن تأخر حصولنا على اللحم لعدم مناسبة القطعية لنا، كانت حوارات الناس ومناكفتهم المستمرة لـ(عم الذوق) هي مصدر تسليتي الجميل.

علاقة غريبة كانت تجمع عم الذوق بزبائنه فليس من المستغرب أن تستمع إلي تعليق شديد اللهجة من عم الذوق علي زبون يعترض علي جودة اللحم، أو قد يصل الأمر إلي تراشق حاد بالكلمات التي قد تكون جنسية أحيانا أو بالإيماء والإيحاء أحيانا أخرى، ولكن العجب العجاب أن عم الذوق وزبائنه لم يشتبكوا يوما بالأيدي أو يغضب طرف من الآخر، فالكل في هذا المكان تقريبا أهل وأصدقاء ومعارف.

لم يكن اللحم هو بضاعة عم الذوق الوحيدة، بل كان دكانه يمتلئ بالخضر والفاكهة. فأنت ستخرج من المكان باللحم وما يطبخ به وبالفاكهة للتحلية أيضا. كان عم الذوق أحد الوجوه البارزة لعائلة العلالمة أحد أطيب وأفضل عائلات منطقتنا على الإطلاق.

كثيرا ما كنت أستمع لحوارات أبي وعم الذوق حول عادل وهو الابن البكر لعم الذوق الذي ذهب مع شباب القرية إلى العراق، وبالحديث عن العراق فشباب الثمانينيات في قريتي ومنطقتي تقريبا جميعهم ذهبوا إلي بلاد الرشيد، ولما لا وكلهم يحمل نفس المشاعر عن بلد يعامل فيها المصري مثل العراقي، عاد عادل في منتصف التسعينيات ومعه زوجته العراقية وما سمعته أنه استقر في القاهرة ولم يعد إلى العراق، لعم الذوق ثلاثة أولاد آخرون أكبرهم وأوسطهم مازالوا بالقرية أم الليثي الذوق فقد قذفت به الأيام ليستقر بالإسكندرية.

لم يعد هناك اجتماع لبيع اللحم يوم الخميس، اختفي ضجيج المكان واختفت معظم الوجوه مات عم الذوق ومات والدي وجدي وماتت كل الوجوه الطيبة ومازالت البيوت والطريق والمدرسة الإعدادية المجاورة لمنزله تشهد لتلك الأيام الجميلة أنها الأطيب والأجمل والأنقى.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى