ألوان السيدة المتغيرة للشاعر فاضل السلطاني هويّة ونسق
د. موج يوسف | ناقدة وأكاديمية من العراق
القارئ لمجموعة ألوان السيدة المتغيرة للشاعر فاضل السلطاني الصادرة عن دار المدى في بغداد يرى أن لغته الشعرية غير مرتبطة بالانساق الكتابية وتصنيفها، بل بحركيّة التجربة وعمقها. قدم لنا الشاعر نصاً مفتوحاً قابلاً للتأويل ومن عنوان المجموعة الذي هو أحدى قصائده (ألوان السيدة المتغيرة) يثير تساؤلات القصيدة والتجربة التي فتحت أبوابَ تعددية المعنى وهذا الأخير يَصبُ في عمق الهوية، السيدة هنا لا تعنى المرأة بجنسها البيولوجي بل هي معنى مجازي ومتعدد عن (غربة الشاعر، أرض المنشأ و الولادة ، الأم ، الاخت ، الحبية، الموت، الأحلام الضائعة، الهويّة، التجربة) فالشاعر يعود إلى أصل الاشياء وهي الأمومة فجاءت السيدة لتحتوي ذاته المعبرة في لغته عن هويّته في انساقٍ متعددة ولا شك أن الهويّة هي موضع تساؤل دائم لكونها تثير الجدل بين الذات وبين ما ستكون عليه الذاتية نفسها فقصديته(الموت بالماء) التي كتبها في غرق 350 عراقياً غرقوا في البحر عند طلبهم للجوء عام 2001 يقول:
شدي على الخشبة
أنت لستِ المسيحَ لتمشي على الماء .. وارتفعي
زوجة النهر أنتِ وأخت المياه العميقة
لا تشربي الملح
وابحري أنتِ أخت المياه الوديعة
نحو ماء الفرات
الشاعر خاطب سيدته وهذه السيدة هي (الهويّة العراقية) التي هربت من عذوبة الفرات إلى ملوحة البحر وقد غرقت فيه لكنها لم تمت، لا لأنها لا تملك معجزة المسيح الذي مشى على الماء وانقذ تلاميذه من الغرق ، بل لأنَّها جاءت من أرض الفرات وهي (الهويّة العراقية الازلية) التي لا تمت ولا تتجزأ، هؤلاء الهاربون من العراق قسراً في تلك المرحلة ـــ قبل التحول السياسي ــ بسبب عنف السلطة الذي فرضَ هويّته القومية على بلد متعدد الهويات ،و للقصيدة نبوءة قد تحققت وهي زوال الهوية المفروضة (القومية) وبقاء الأصل أو نطلق عليه هوية الأم لأنها مرتبطة بأرض الفرات. وفي قصيدة (عشتار في متحف برلين) يقول:
منذ خمسة آلاف سنة
تنام عشتار في سريرها
بانتظار أن يأتي
منذ خمسة آلاف سنة عشتار تنظرُ
في متحفٍ ضائعٍ في الأرض تنتظر
يمرُّ الزائرون
يمرُّ كلكامش وهو يحمل فوق كتفيه
تمثاله الزجاجي ، عدته الوحيدة الخلود
أسطورةُ عشتار الشهيرة ذات رمزية الأم الأولى منتجة الحياة فالشاعر وظفها في القصيدة لتكون هويّة ذاتية وما سيكون عليه الآخر الذي تعرضت هويته للإقصاء، فعشتار في برلين هي هوية العراقي المغترب في بلدان العالم بالرغم من اكتسابه هويّات أخرى لكن تبقى الجذور الأصلية في ذاته فعشتار هي الهوية الأم التي تنطلق منها باقي الهويات الفرعية .يواصل الشاعر السلطاني وعيه بهويته قائلاً في قصيدة (بابل بابيلون): بابل بابيلون
ــــ لا تجرِ يا تيمز
لا تجرِ يا فرات
سأحتاج نهرين حتى أغني :
السفائن تبحرُ والكلماتُ ستبقى
حبّك الذهبي كقنديل ضوء على العشب
الهوية تفاعل حيّ مستمر بين الأصل والفرع ، وهي ليست ما ثبت واتضح بقدر ما هي في تغيّر لذلك هي في حركة تغيير مستمر ، القصيدة جاءت لتبين ما سبق ذكره فبابل بابيلون هويّة الأصل و(تيمز نهر في لندن) الهوية المكتسبة بحكم جغرافيا المكان لأن الاخير أحد عناصرها و( لا تجرِ يا تيمز لا تجرِ يا فرات سأحتاج نهرين حتى أغني) تتجلّى الهوية في النص ولا يكون الأنسان نفسه في تجربة الإبداع الا بقدر ما يخرج ممّا هو والشاعر السلطاني قد خرج من الـ (هو) بحكم عمق التجربة وفاعليتها فجاءت هويّة اخرى مكتسبة مع الأصل . الشاعر يعود إلى الموروث الأدبي في مرثية (سهام) المناضلة والرفقية والسيدة والأخت فيقول برثاء مشحون بعاطفة عالية:
كنتِ واسطة العقدِ
ــــ يا للإله
كيف يختار واسطة العقد ؟
لا تندمي !
ارقدي تحت أمّك
كان انتظاراً طويلاً
منذ 16 / 4/ 1998
حتى 30 / 3 / 2009
وهي تنتظرُ أن تطلّين فجراً
كيف أخلفتِ موعدها ؟
ادخلي بيت أمّكِ فهو فسيحٌ
ولا ترجعي لمدار السرطان ..
مدار البشر
الشاعر في رثائه تتضح هويته الشعرية التي ربطها بالمورث القديم (كنت واسطة العقد) هذه مكانة المرثية سهام في ذات الشاعر التي استوحاها من مرثية ابن الرومي في ابنه محمد (توخّى حِمُامَ الموت اوسط صبيتي فلله كيف اختار واسطة العقد) لكن صورة الشاعر ابن الرومي كانت سطحية لأن ابنه الاوسط مات فشبهه بواسطة العقد من ناحية الاهمية المكانة للمرثي له ، بينما الشاعر السلطاني له معنى اعمق في مرثيته إذ اعطاها ميزة الملاك أو شيء فيه هالة القداسة عندما قال (ولا ترجعي لمدار السرطان مدار البشر) وهذا ما يعزز صورته في واسطة العقد. العودة إلى الموروث واحيائه بهذه الحداثة يعدّ هوية شعرية لغت حدود القديم والحديث واهتمت بالجانب الإنساني وجوهره (الشعر). وبما أنه هذا الاخير يعدّ وثيقة خالدة فرسخ الشاعر تاريخ وفاة واسطة العقد مع السيدة الثابتة أمه في مرثيته لأنّه يدرك ديمومة الأدب الإبداعي،الشاعر فاضل السلطاني في ألوان السيدة المتغيرة كان همه الإنسان لذلك نراه متحرراً من كلّ الايديولوجيات التي بسببها يقتل الآخر، ممّا تعمقت عنده روح التجربة ، فحلقت عالياً في سماء الإبداع فجاءت الهويّة في لغته الشعرية منفتحة لأنها تأتي في التفاعل لا في الاكتفاء والانكفاء.