د. عبدالحكم العلامي| شاعر وناقد مصري
ألحّ عليّ هذا الاقتباس النصي بشدة لأنْ أقيمه دالا أول/عنوانا لهذه الرؤية التي أسعى إلى تقديمها هنا حول ديوان “نصوص آثمة” للشاعرة هبة عبدالوهاب (1), ألحّ عليّ ليضع نفسه هكذا متعاليا بحيث تصبح بقية الدوال النصية في حالة نزوع دائم إلى معاينة جماله, و متابعة مادة فعله التي ستسري في جسد تلك الدوال بحسبانها الروح التي تمدُّ هذا الجسد بإكسير الحياة!
إلتقطتُه أي هذا الاقتباس النصي من الإهداء فائق الروعة الذي قدمت به الشاعرة لديوانها في دهاء و ذكاء مندوبين _فيما أرى_ في مثل هذه المواقف: دهاء فني يتمثل في أن صاحبة هذا الإهداء تودُّ أن تجرَّ قدمك بهدوء إلى متابعة تلك الكبسولات بقصد إدراك حبورها, بدفعك إلى الاجتهاد و بذل العرق من أجل الظفر بواحدة منها, و الذكاء في وسمها لهذه الكبسولات بالفاتحة للشهية و هذا فخٌّ من الفخاخ التي نصبتها لك الذات الشاعرة هنا على أمل منها في إيقاعك كلك هذه المرة في شراك تلك الكبسولات, و عندها ستصبح أسيرا لها, بمعنى أنه لن يكون بمقدورك الفكاك من أسر شراكها قبل أن تخلِّص نفسك منها عقدة إثر عقدة, و هذا هو المغزى _في رأيي_ من وضع تلك الكبسولات هكذا متعالية على الإحداثيات الأولى للفعل الشعري في هذا الديوان! و عند محاولتك تخليص نفسك من عُقد هذه الشراك عقدة إثر عقدة, سيكون عليك بذل المزيد من الجهد من أجل إدراك حبورها المرتجى, و نوالها المنشود. يقيني أن هذا هو المراد من أثر الفعل الشعري بوجه عام, و من أثر إحداثيات قصائد هذا الديوان على وجه الدقة, تقول “هبه عبدالوهاب” في نصها “البعد الرابع”:
هي ليست كتابة يا صديقي
هي مغامرات شائقة في بلاد الحزن الطهور
تحليق في البعد الرابع من الحياة
انهزام إرادي وانعطاف نحو الطريق
لتمر الأشياء كلها دون ضجيج
وحدات الإنارة أعلى العواميد تستقبل ضوء أرواحنا المشع,
و تبثّه استسلاما لحرب ضروس بين العالمين:
عالمنا الخارجي المهلك, و عالمنا الداخلي الأكثر هلاكا
بلغوا عني و لو آية!
كأني بالشاعرة هنا و هي تلهث من أجل تبريد حرارة هذه الشراك بإخراج متابعيها من حالة الوجل التي ربما تنتابهمأثناء بلوغهم حواف هذا الذكاء المفعم بالدهاء و هي تقود خطاهم بهدوء تُحسَد عليه إلى شراكها المعدة سلفا, تلك الشراك التي تتمثل في كبسولاتها الفاتحة للشهية, كأني بهم و هي تَرْبتُ على أكتافهم متحننة عليهم: ألَّا تُراعوا, على رِسل قلوبكم كونوا هادئين, فما أنتم مقبلون عليه لا يعدو كونه مغامرة من المغامرات التي حتما ستخوضون تجربتها يوما ما شئتم أم أبيتم, مادمتم قائمين على مضارب هذه الحياة, و إذن فلا طعم لبقائكم هنا مالم تغتسلوا في هذا النهر/نهر المكابدات و مائه الطهور: هي ليست كتابة يا صديقي! هو احتراز _على ما يبدو_ من لدن الشاعرة لمتابعيها تستخدم فيه كلمة “صديقي” بما تحمله من حميمية و إشفاق, و بما تنطوي عليه من معاني الطمأنينة و الهدوء: لتمر الأشياء كلها دون ضجيج” كي لا يتفلت منّا أو منكم ما يُعكِّر صفو قدرتنا على متابعة عوالمنا التي نكتوي بلحظتها الراهنة: عالمنا الخارجي المهلك, و عالمنا الداخلي الأكثر هلاكا”!
أرأيتم كم هي داهية و ذكية في الوقت نفسه, أقصد الذات الشاعرة فها نحن نمرُّ مع الأشياء هكذا دون ضجيج كما أرادت هي بالضبط, لنتابع ذلك الانهزام الإرادي قبل انعطاف الطريق, هكذا أيضا دون ضجيج بعد أن استلبتنا من خوفنا كبسولة: يا صديقي! سالفة الذكر, و لكن ما طبيعة تلك الحرب الضروس التي تبشر بها الذات الشاعرة هنا و التي ستدور رحاها بين عالمين: عالمنا الخارجي المهلك, و عالمنا الداخلي الأكثر هلاكا” ظنّي أن هذه الحروب ستتسم بسرمديتها, و صيرورتها فمنذ أن أسال الإنسان دم أخيه الإنسان على هذه الأرض, و نحن أي بني ذلك الإنسان بين فكي رحى هذه الحرب التي وسمتها الشاعرة بالضروس, فقد خلفتنا هذه الحرب على مشارف انهزامين: انهزام ظاهري باد, و انهزام آخر داخلي يبين ولا يكاد يبين! و ما بين هذين الانهزامين تتوالد أحزاننا التي يسفر هدير سطحها عن أغوار بعيدة !, و في استدعائها للحديث النبوي الشريف: بلغوا عني و لو آية” تنفتح الدوال على مسارات أخريات, و ينعطف الطريق مرة أخرى انعطافة تجعلنا نتوقف قليلا متسائلين: ما الموقع الإعرابي, أقصد الدلالي لإيراد هذا الحديث الشريف هنا بالتحديد,لنتبع السؤال بسؤال, هل نحن بصدد حالة من “التناص” التي تعني تداخل النصوص فيما بينها من أجل انتاج مكون جديد أي نص جديد, أم نحن في مواجهة حالة من “التلاص” بتعبير عز الدين المناصرة (2) الذي يعني المنحول من الأدب أي المنسوب لغير مؤلفه؟ و الإجابة تتمثل في أننا لسنا بصدد ذاك, و لا بمواجهة هذا, و إنما نحن بصدد حالة برزخية بينية لا تشير إلى “تناص” باد فالحديث جاء بلفظه تماما دون تدخل أو تصرف من قبل الشاعرة, و لا تنطلي هذه الحالة على “تلاص” الذي يعني المنحول من الأدب فالحديث, مشهور و معلوم لدى العامة بالضرورة, و لايمكن لأحد أن يدعيه لنفسه غير أن مجيئه هنا كما ورد بنصه في كتب الحديث, إنما يشير فيما أرى إلى إكساب رسائل الشاعر بوجه عام رسولية المنهج, فإذا كان المبلغون عن ربهم يتلقون وحي رسائلهم من السماء, فإن الشاعر يتلقى إلهاماته من الأرض/من البشر/من الناس, و لكلٍّ منهما مادة فعله التي تتمثل في الكلمة بالنسبة للشاعر, و تتجلى في الكلمة أيضا ولكن على هيئة آية أو حديث بالنسبة للمُبلغ عن ربه, و كل منهما أي الشاعر و المُبلغ عن ربه يحتاجان إلى من يبلغ عنهما ولو كلمة بالنسبة للشاعر, آية أو حديث بالنسبة للمُبلغ عن ربه!
هي مساحة شاغرة دائما ما بين المُبلغ عن ربه و بين الشاعر تملؤها الكلمة في كل وقت, و في كل وقت تحتاج هذه الكلمة إلى من يهمه الأمر ذلك الذي يعمل على إيصال رسائلها إلى أقرانه من بني البشر ممن يشاركونه حاجته إلى إنفاذ هذه الرسائل.
و في نصها “مرآتي الضائعة” تلتمس “هبة عبدالوهاب” سُبل القاصد إلى الاحتفاظ ببهائها الإنساني مدة أطول على هذه الأرض قبل مماحكات الزمن التي تعمل على النيل من هذا البهاء, و على كلِ حال تلك هي رسالة الفن بوجه عام, والشعر على وجه الخصوص, فالفنان مراده دائما و ديدنه العمل على اقتناص اللحظات الإنسانية في أبهى صورها, و السعي إلى الاحتفاظ بها مدة أطول قبل أن يعبث الزمن بهذا البهاء فيحيله إلى أثر بعد عين, تقول الشاعرة:
أذكر أنه ليس هناك مبرر وحيد
لهذا العداء الواضح بين ذاكرتي اللئيمة و ملامح وجهي
الطيبة
أخبركم الآن كيف اعتادت ذاكرتي اللعينة أن تفقدها
عامدة,
و ما كان مني إلا أن تواطأت معها
و غادرت..
و كلما اشتقت إليها ساعدتني مرآة حقيبتي الشقية –
التي ضاعت- على مراجعتها
المشهد الآن
أنّي أبكي
فقد ضاعت حقيبتي,
بها مرآتي.. و هي التي حفظت ملامح وجهي,
كاميرا الهاتف كانت معها
كانت تحفظني, و تحفظ انفعالاتي,
فكم سجلت لي من هزائم, و ابتسامات ساحرة!
وفي سبيل الوصول إلى هذا الهدف الذي يتمثل في اقتناص اللحظات النادرة في حياة الإنسان والعمل على الاحتفاظ بها مدة أطول على هذه الأرض, يختار الشاعر بوجه عام ،وشاعرتنا هنا على وجه التحديد، الكلمات الحية التي تتشكل منها لغة الشعر، فالشعر لغة فوق اللغة ينأى كثيرًا عن اللغة في مواضعاتها المأمونة التي تتسم بثبات حركتها ومحدودية دوالها كالتي نستخدمها في حياتنا اليومية،لنقترب إلى لغة أخرى حية متوترة، ومراوغة لا تستقر على حال، ويصعب اقتناصها في إطار يُحدُّ من حركتها ويجابه نزوعها إلى إنتاج الدوال، فعندما يترك الزمن أثره على الملامح التي تم الاحتفاظ بها في أبهى صورها بقصد النيل منها، والسعي إلى هتكها، تحضر الحقيبة حاضنة الأسرار، وتحضر مرآة هذه الحقيبة باعتبارها الأثر الباقي من هذه الملامح/ الأثر الذي يمكن من خلاله استحضار الغائب من بقية هذه الملامح، وتلك السمات: المشهد الآن، أني أبكي، فقد ضاعت حقيبتي” ولم تكتفِ هذه الحقيبة بأنها قد ضاعت، بل أخذت معها كاميرا الهاتف: فكم سجلت لي من هزائم، وابتسامات ساحرة” والذي يؤكد ما ذهبنا إليه من استحضار لغة حية نشطة ومراوغة من قبل الشاعرة، يتمثل في معاودة قراءة الموقف على مستوى توزيعه على شبكات الدوال لنقف سويًا في مواجهة ذلك العداء الواضح بين الذاكرة, وملامح الوجه وكيف أن الذات الشاعرة تواطأت معها، وكيف لمرآة الحقيبة أن تقوم بدور المساعد في استعادة تلك الملامح التي ضاعت, وكيف لكاميرا الهاتف التي ضاعت هي الأخرى أن تحفظ الانفعالات, وتسجل الهزائم، وكيف يمكن بمفردها أن تُبقي على تلك الابتسامات الساحرة التي تم اقتناصها في لحظات إنسانية نادرة، وذلك لأن الكلمات الحية، تكمن دائمًا في اللغة الحية ” ليس على الإطلاق بالشيء الذي تجثم الكلمة فوقه كما يقف النورس فوق الصخرة. إن المعنى شيء تحلق فوقه الكلمة كما يحلق النورس على مؤخرة السفينة . ومحالة تثبيت المعنى الصحيح في أذهاننا شبيهة بملاطفة النورس حتى يستقر في الحبائل مع ضرورة إبقاء النورس حيًا عند وقوعه فيها. فلاينبغي إصابته وتقييده. وطريقة اكتشاف المعنى الصحيح ليست بأن نسأل أنفسنا ما الذي نعنيه؟ بل بأن نسأل أنفسنا ” ما الذي نحاول أن نعنيه؟”. و يتضمن هذا السؤال سؤالا آخر هو “ما الذي يحول بيننا و بين أن نعني ما نحاول أن نعنيه؟” ” (3) وفي سبيل إدراك ما الذي يحول بيننا، وبين أن نعني ما نحاول أن نعنيه، تبقى فوارق شاسعة بين خطاب وخطاب مغاير، وبين نص ونص مفارق من أجل إنتاج دوال تتسم بجدتها ومراوغاتها/ دوال تقف بنا هكذا وقفة النورس على مؤخرة السفينة، لا تلك التي يقفها النورس نفسه فوق الصخرة، وفي نصها “مشاغبات قبلة” تستعيد “هبة عبد الوهاب” مفتاحها السحري الذي يتمثل في كلمة “صديقي” لتدخل بك في حنو وتودد رويدًا رويدًا إلى عوالمها الشعرية ذات الشفرات، ثم تحاول أن تأخذ بيدك حثيثًا إلى لغتها الخاصة/ لغتها التي تشبه وقفة النورس على مؤخرة السفينة تلك الوقفة التي يصعب ترويضها لمساكنة الأطر إلا بعد جهد جهيد من المتابع لها وهو القارئ في الأحوال كلها، تقول الشاعرة:
صديقي
لم أعد أربي أحلامي في خزانة ملابسي
بعدما باتت تقرضُها عامدةً
لم تترك لي ما يواري سوأة القصائد
طردتها جميعًا
هكذا
واعتدت الخسارة
هي كل مكاسبي المثالية
بعدما انتهت صلاحية الأيام
الكل يحنو
وأنت البخيل الوحيد
لا تمنحني فرحة استقبال خسارة جديدة مع صباح أنت به
العائد الوحيد
ومساء لست به الراحل الوحيد
كل الأشياء ترحل!
اللغة التي تتحدث عن تربية الأحلام، تلك الأحلام التي تقرض خزانة الملابس والتي يتم طردها هكذا بعد انتهاء صلاحيتها، تلك الأحلام التي تفعل معكوس ما هو مطلوب منها، تأخذ معها كل الأشياء وترحل هكذا، وهكذا يصنع النص لدى الشاعرة أسطورة لغته ومجازه المغاير بعيدًا عن المجاز بمعناه المتعارف عليه في بلاغتنا القديمة/ المجاز المغاير هنا يحل مادة فعله ويوزعها على شبكات الدوال بعيدًا عن رؤيته مجتزئًا مبتسرا فيماعدا ذلك من كتابات.
النص إذن مع قصيدة النثر يصنع أسطورته، ويشكل مجازاته بعد أن ينتصر لقيمه هو، وقواعده التي تتسم بحرية الحركة ومغايرتها ” وإذا كان الإنسان بصفة عامة يشارك في صناعة التاريخي والأسطوري فإن الشاعر على وجه الخصوص هو أقدر الناس على خلق الأساطير. فالشاعر بما يملك من أدوات فنية ولغوية لا يوظف الأسطورة الجاهزة بقدر ما يعيد خلقها أو ينشئ أسطورة جديدة تعتمد على رموزه الشخصية التي هي في الوقت نفسه امتداد للصور والنماذج العليا التي يتشكل منها اللاوعي.”(4) وإذا كان النص في محايثاته الجمالية ذات المجاز المغاير واللغة الحية النشطة/ اللغة التي تتساوق مع لحظتها الراهنة تستقي مفرداتها منها، وتشكل _على بينة منها_ عوالمها، وعلى بينتها تخطُّ رسائلها وتبعث بها إلى من تهمه هذه الرسائل، و إذا كان الأمر كذلك فإن نص”رحلة في ثوبها” يأتي متساوقًا مع هذا كله:
أبحث عن ضالتي!
تصدقت في الطريق بممتلكاتي ومدخراتي
اكتفيت بتحويشة القلب من الصراعات!
تبرعت بلساني
لصديقة ثرثارة نمّامة طعّانة
علّها تستثمره بطريقة أكثر إبداعا
أهديت أنفي
لعاشق العطور الفقير
عساه يحلق في الفردوس
سيفاجأ أني
زرعت فيه شجرة العود
فأنبتت وفاحت عطور الجنة.
ودعت ذراعي قبل بترها
إذ منحتها لشحاذة كفيفة
وأهديت عينين حوراوين لطفلة جميلة تسحبها.
كما وهبت ساقين عفيتينٍ
للص كسيح
حتى يجيد الجري
ويفوز بغنيمة واحدة على الأقل.
موقف مثير و دال يسعى لأن يضع الإنسان بكل تناقضاته على دائرة الفعل و إحداث الأثر, و أن يمارس أفعاله في حرية تامة وفق معايير يستنها هو بعيدا عن إملاءات الآخر الذي يودُّ أن يُحدَّ من هذه الحرية مقيدا إياها بقوانينه هو, فارضا عليها مشيئته بقصد تحديد مساراتها, و التأثير على توجهاتها, و على الإنسان إذا كان لديه الرغبة في العمل بحرية بعيدا عن مضايقات هذا الآخر, أن يتخلى لنفسه و لغيره عما يمكن أن يعيقه أو يعيقهم عن إتمام أعمالهم بحرية و نفاذ تمكنهم من القدرة على الفعل و إحداث الأثر: تصدقت في الطريق بممتلكاتي, و مدخراتي, اكتفيت بتحويشة القلب…” و ما الممتلكات و المدخرات تلك سوى ما بقي من الأدران, و ما تخلّف من العوالق/ سوى هذا الركود و تلك النفايات التي يجدر التخلص منها من أجل ممارسة صحيحة و ناجعة لحرية الفعل, و عندها لن يتبقى سوى “تحويشة القلب” التي تشير هنا إلى إطار عرفاني للعمل ذي منزع صوفي ذلك المنزع الذي ينبني أصلا على فكرة التخلي و الترك لمصادقات الجسد التي تتمثل هنا في الممتلكات و المدخرات ذات المسلك الجسداني ذي الإهابات النفعية العاجلة! هنا يتم التخلي عن اللسان آلة الكلام, و الأنف آلة الشم, و الذراع آلة الفعل و إحداث الأثر, و العينين آلاتا الرؤية و المعاينة, و يتم التخلي كذلك عن الأذن آلة السمع. يتم التخلي عن هذه الأشياء بقصد استعادتها مرة أخرى بعد أن يتم ترويضها على العمل بشكل أفضل/ بعد أن تمتلك قدرتها على الفعل و إحداث الأثر بالكفاءة المغايرة لما كانت عليه قبل عملية الترويض سالفة الذكر: فقد أهديت اللسان لصديقة: علها تستثمره بطريقة أكثر إبداعا, و أهديت الأنف لعاشق العطور: عساه يحلق في الفردوس” و أهدتْ الذراعين لشحاذة كفيفة, كما أهدتْ العينين الحوراوين لطفلة جميلة, ثم أهدتْ الساقين للص كسيح: حتى يجيد الجري, و يفوز بغنيمة واحدة على الأقل” هكذا, و هكذا يتم التخلي عن هذه الأعضاء و تلك الجوارح بالمعنى العرفاني من أجل هدمها ثم إعادة بنائها على نحو أفضل مما كانت عليه قبل عملية التخلي تلك.
و هنا سيكون علينا, و لنا أن نتساوق مع مقولات أستاذنا “د/ مصطفى ناصف” فيما يتعلق بمثل هذا الطرح ف “أنت مؤهل بلغة الشعر لأن تفجر الحجارة لا أن تفجر الأنهار, هذه هي الخصوبة, لتكن صلبا متماسكا كالحجارة, و لتكن متحركا مثمرا كالخصوبة, اهتم يا سيدي بالعوائق و العناصر المناوئة, كفاك البحث المستمر عن التناسب و الخصب الهادئ, و التفكير الذي يمكن أن يمضي دون أن يقوم على حرارة الروح, إن الروح العظيم هي التي يرمز إليها من بعد أو قرب بالنار, و النخلة الحبلى, و الحجارة التي تهتز من المخاض.” (5) نعم إن الروح العظيم هي التي يُرمز إليها من بُعد أو قُرب بالنار, و أن اللغة الحية هي التي تتساوق مع لحظتها الراهنة آخذة منها, و معطية لها في تبادل مشروع للمواقع, هي تلك اللغة التي نحن على وفاق معها هنا لدى الشاعرة هبة عبدالوهاب/ اللغة التي تتشكل من خلال تماوجاتها البينية المتوترة و القلقة تلك التي لا تستقر على حال تماما تماما كحال النورس الذي يقف على مؤخرة السفينة, لا الذي يقف على الصخر!!
المراجعات:
1- يراجع: هبة عبدالوهاب/ ديوان “نصوص آثمة”/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 2022م.
2- يراجع: عز الدين المناصرة/ علم التناص و التلاص/ سلسلة كتابات نقدية/ العدد 199/ الهيئة العامة لقصور الثقافة/ القاهرة 2011م.
3- يراجع: روبين جورج كولنجوود/ مبادئ الفن/ ترجمة د. أحمد حمدي محمود/ سلسلة أمهات الكتب/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 2001م.
4- يراجع: د. عبدالناصر حسن/ صانع الأسطورة في الشعر العربي الحديث/ سلسلة كتابات نقدية/ العدد 244/ الهيئة العامة لقصور الثقافة/ القاهرة 2016م.
5- يراجع: د. مصطفى ناصف/ ثقافتنا و الشعر المعاصر/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 2000م.