ثنائيتا الفعل والأثر في (حقيقة الأسماء) لـ د. زينب أبو سنة
ديوان "حقيقة الأسماء" - دار أفاتار للطباعة والنشر- 2014م.
د. خالد عبد القادر رطيل
إن ولادة التجربة الشعرية مخاض يمر بكثير من الوهاد والعثرات، وتتمحور من خلالها مفاوز عديدة تسهم في اكتمالها وبناء صورتها النهائية، فالشاعر يستقبل واردات عدة قد يختلط عليه مسار هذه التجربة في بداياتها إلا أن يربط الشعر على قلبه بما نطلق عليه الاستبطان القلبي والوجداني الذي يعين الشاعر في تجاوز تلك المرحلة الشديدة الكلفة، والتي قد تغير مسار تجربته إلى وهاد لا يوائمه ولا يمتّ إلى تجربته بصلة، وهذا يستدعي أن يجاور هذا الاستبطان إطار خارجي حاكم، يوجّه سلوكيات التجربة، ويمهد لها سبلاً لاقتحام العالم، والسيطرة المتوازنة على الوجدان الداخلي الذي- ربما- يذهب بتلك التجربة إلى مناحي بعيدة داخل النفس والتقوقع فيها.
وقد يستخدم الشاعر الإطار الصوفي كقناع لإبراز مخزونه الوجداني على نحو يشي بأنه يصارع أمواجاً وأشكالاً عديدة من التفرد الفكري وعمق التجربة، ولكننا لا بد أن نلمح من مثل هذه التجارب إن كان التصوف نابعاً من وجدان دافق أم جاء ليعطي إشارة كاذبة لتصنّع ظاهري يخفي وراءه عجزاً وقلة حيلة في إيصال صوته للناس، وهذا ما يميز التصوف كتجربة حقيقية لأي شاعر، حيث يكشف المندسين سريعاً، ويزيل الحجاب عن المدّعين ولو لبسوا المرّقع وهاموا على الوجوه.
ومن تلك النماذج الشعرية التي تخطت حدود الادعاء، وأرهفت سمعها ولغتها لوجدان يموج بتجربة صوفية تخلو من الضجيج وإرهاب المتلقي بهول التجربة، وقسوة الطريق الدكتورة (زينب أبو سنة) من خلال ديوانها: «حقيقة الأسماء»(1) والذي يعدّ تجربة تتماهى في حدود الصمت والتفرد، ومما يحسب لها أن تجربتها مرّت علينا هكذا صوفية رائقة ماتعة، يتحول فيها «البرهان الى دلالة الجدل والبيان، إلى دلالة العرفان ومن ثم الانتقال من حقل اللفظ، الى حقل المعنى، من حقل الظاهر الى حقل الباطن من خلال المجازية اللغوية»(2) والذي يبدو لنا جلياً أن هذه العملية التحويلية لا تخلو من مبرر لغوي تارة أو بلاغي حيناً آخر، فالمجازات اللغوية تلعب دوراً لا يستهان به في هذا التنقل الدلالي من الظاهر إلى الباطن في شعر د. أبو سنة:
قليل من دموع البوح تغسل قسوة الذكرى
قليل من صـفاء الروح والنفس التي ترضى
ومن ملح الجراح الصعب نولد مرة أخـى
البوح إذن هو ميلاد الصحوة، وانكسار الغفوة، واستشراف حقيقي للذكرى، والتي هي مجرد أوهام نسميها ونعيش عليها، في حين أن تصفية النفس والروح من كدرات الوهم، والانفلات من مغاليق الأسماء التي تكبل الروح من أن ترى حقيقة الأشياء هو الولادة التي تحسب للإنسان في الحقيقة، وهذا هو ما يطلق عليه أهل العرفان بالتخلى، وهو مغادرة نفسية جادة لما تراه الروح عائقاً أمام الانفلات عن قسوة الوهم المتمثل في الذكرى، وجراح حسبناها نهاية العقاب والتجلية، ومن هنا نبحث مع د. زينب أبو سنة عما تخفيه الأسماء، فقد وضح أنها قشور تخفي أكثر مما تبدي، وفي لحظة من الصمت العاقل توقفت أمام تجربتها قليلاً، وقالت: ما الذي تعنيه الأسماء؟! وما حدود تلك الدلالات التي نصنعها بألسنتنا؟ وكيف لاسم أن يعي حقيقة المسمى وهو لا يأخذ منه حيزاً إلا بقدر الحروف وتشكيلاتها الزخرفية؟!
من هنا انطلقت لتكشف لنا حقيقة ما نلهو به وله، ونعيش على وهمه، وننساق في تفسيره على ما يوافق رغباتنا وهوانا، ولكننا نفتش عن هذا التفسير الذي نرتقبه من الشاعرة عن حقيقة الأسماء فيتوه الناظر معها، ويحسب أنها قد نسيت أو تناست هذا التفسير لعنوان ديوانها، ولكننا لا ننسى أننا أمام شاعرة صوفية من طراز خاص، لا تؤول ولا تتوارى خلف أكاذيب الكلمات البراقة، ولا تدعي لنفسها شيئاً مما يتمتم به ألسنة الذين كتبوا متخذين العرفان تجربة؛ بل سنجد أن الأسماء التي خدعتنا كثيراً، ورحنا نؤمن بدلالاتها على نحو فردي أناني لم توضع لتفهم هكذا، لأنها ترى خلف كل اسم في الوجود حقيقة مردها إلى العلىّ الذي له كل شيء، وإليه كل شيء:
وكم أهرقت أعواماً بعيداً عن سمـاء رؤاه
ولم أفطن لأنس الحب دفء الشوق.. واأسفاه!
وكنت مغاضباً نفسـي فألقاني بشط رضاه
تتوالى المعاتبات النفسية في حديث مشابه لما صنعته رابعة العدوية في تجربتها العرفانية، تلقي الأسئلة لا لتزعم لنفسها أنها تعقل المعنى؛ بل لتجلد تلك الروح التي ظلت تقنع بكل المعاني الظاهرة دون أن تتجلى لها حقيقتها الوجودية الأخرى، والتي من أجلها خلق الله العقل وجعل الوجدان عليه دليلاً، هي تسميها جراحات لأنها تركت على محياها أثراً من سوءة السنين العجاف خارج هذا المحراب، وصنعت شجاً عميقاً بينها وبين الرضا عن نفسها وعن حالها.
وتتعالى رغبة النجاة من تلك الجراح والدموع، وهي لا تمثل في الحقيقة هموماً بعد هذا التجلي والتخلي إلا بقدر شعور الإنسان بالوهم الزمني القابع خلف أوهام الأسماء، والانغماس في تضليلاتها التي لا تصل بها إلى جوهر الحياة أبداً، ومن هنا فإن مجرد الإحساس بالشوق إلى الوصل، والقرب من البعد، وانشغال القلب بمهمة جليلة رجاء الانفصال عن الجسم، ليكون إيذاناً بالوصول إلى روح الوجود الأعلى الذي لطالما حجبته الأسماء عنا، وما قدرت أن تكشف لنا حقيقة كنهه، تماماً كما حدث لموسى مع الخضر حيث إنه لم يفطن لحقيقة الاسم «كن» ولم يكن يظهر له أثر في أسئلته ولا في تعابيره التي جاءت قياساً محضاً على أوهام الحياة التي صبغت اندهاشاته من الفعل:
تهـاوى زيف أخيلتي تهـاوت علة الإخفاقْ
أقام العشق معجزتي وما عـرف الهيام نفاقْ
نبذت جمــيع أوزاري لتملأ هـوة الأعماقْ
ولأن الأسماء قيود على النفس، وغربة ممتدة في عمق الوجود، وشهادة حقة على إخفاق الروح، وعلة أصيلة في تمييز النفوس على هذا الأساس الوجداني، كماتميز آدم عليه السلام بالوقوف على حقيقة الأسماء، وإدراك مراميها، فإن (د. زينب أبو سنة) أخذت على نفسها ميثاقاً ألا تخوض مع الخائضين، وألا تكون مضللة العين مرة أخرى، فقد عاشت كثيراً تحت وطأة الاسم، حتى أفاقت روحها على هذه الثورة الوجدانية، والتصميم على معرفة أخرى تضع بها حداً لهذا التيه النفسي:
أنا أقسمت ساجدة بنور سماك والطارقْ
بأن أبقى على عهدك أمـام بهائك الخارقْ
وحين أجبت لي سؤلي تنفـس قلبي الغارقْ
وتتوالى رغبات الشاعرة في التخلى عن الموجودات رغبة في الوصول إلى تلك الحقيقة التي تعني خلاصاً ما من التخبط الدنيوي، كما فعلت رابعة حين سئلت عن سبب مرضها فقالت: «والله ما أعرف لعلتي سبباً غير أني عرضت علىّ الجنة فملت إليها بقلبي، فأحسب أن مولاي غار عليّ فعاتبني؛ فله العتبى»(3):
أتيت إليــك معتذراً شددت عزائم الطاعةْ
وأسأل عن غد آتٍ أضمّد فيك أوجـــــاعهْ
وهذا التشابه فيما بين (د. أبو سنة) وبين رابعة يكاد يكون على خط واحد، فالرغبة هي هي، والمراد يمتد ليكون حاضراً بين يدي المحبوب الأعلى، وسواء أدرك أم لم يدرك فيكفيه أنه نالشرف المخاطبة، وبسط الكلام في حضرته كما فعل موسى عليه السلام في حضرة العليّ من إطالة الجمل الكلامية ليطول الوقت في المعية:
وحسبي متعتي في الشوق إن لم أدرك المحبوبْ
وحسبي دمعتي في الوجد تلهم قلبي المشـبوبْ
وأعرف أن وعد الوصــــل أمر آجل مكتــوبْ
إنه اليقين الذي يأخذ بزمام المبادرة المشوبة بالأخطار والآلام، ولكن متعة المعاناة، وقسوة التشريد أقامتا في نفس الشاعرة هنا يقيناً حصل في القلب، وأزمعت الروح أن تواصل السير من أجله، لأنها تدرك أنها بدونه وحيدة مصيرها الفناء، ولا يمكن أن يخفف أعباءها سوى المثابرة والمحاولة على نيل الرضا على هذا النحو، فهي تدرك أنها «مفردة وحيدة مع مسئولياتها الهائلة، وتشعر أنها للفناء، وأن الفناء يحاصرها من كل جانب»(4)
والتجربة الصوفية دائماً ما تبدأ بالتصفية والتنقية، وتنتهج مساراً قد يكون طويلاً من الجهاد والمثابرة، والتخلي والتحلى، والاغتراب والاقتراب، متضادات كثيرة تبدو للآخرين ولكنها بالنسبة للصوفي هي طريق خلاص وحيد:
تخلصني من الأغـيار كي أنفي هوى جسدي
بسر الكاف ســـر النون لاح المشهد الأبدي
أنا مــرآة هذا النوركنت ســــناي في المــهد
وهذا ما يدفع الشاعر لأن يبوح بكل ما لديه من عذابات واعتصار نفسي، رجاء أن يجد من يخفف تلك الآلام، ويعد بمآل أكثر نعيماً ورضا، فلهذا تطمح إلى من يعانق هذا المفتون المعذّب، ويفك أسره من هذه الدنيا الفانية:
أنا مفتونة عشقاً وعشقي جاوز الأعماقْ
فيا يقطينة الإبراء من يُشــــفى بغير عناقْ
وبعد هذا الرجاء ومحاولات الوصل المضنية تتشبث بما تشبث به الأصفياء، حيث تتلاقى أوعيتهم ورغباتهم، ومن ثم تتلاقى وتتشابه أوصافهم وفعالهم، فنراها ترنو إلى أن يكون لها اصطفاء آخر حيث ألقت روحها بين يديه، وأثقلها التوسل والتضرع مثلما فعلوا، فتطمح ساعتها في روحة من العطاء، وقبس من الرضا:
وأقبس من سـنا موسى شعاعاً من بياض يديه
ومن يعقوب أنفاساً تبشّر بالرجـوع إليه
ومن لقمان حكمته التي سالت على شفتيه
والقاسم المشترك في كل تلك النماذج النبوية التي توسلت بها أنها كلها تصب في بوتقة التطهير والتخلية، حيث كان لهم ما كان بما قدموه بين أيديهم من المآسي والعذابات.
وتكتشف (د.أبو سنة) أخيراً سر الأسماء المكنون، والذي يغيب دوماً عنا إذا لم نكن على هذا الصفاء الروحي، والحضور الوجداني، أو الوعي العرفاني الذي يُتكشف عن طريق أضواء النفس الأوابة، حيث تتحدد وتتضح عندها مضامين الأشياء، وتأويل الأسماء في صورة من صور الكشف الوجداني الذي وحده من يعرف هذا، ولا سبيل إلى هذا الكشف والرؤية سوى نفس الشاعر العرفاني الذي رافقته خبايا كثيرة أثناء البحث والتنقيب عن هدفه المنشود، ومن ثم نرى الشاعرة هنا تتجه اتجاهاً آخر مغايراً لما سبق من التذلل والخضوع ليصل إلى مرحلة التلذذ بما كشفه لها الموقف الآن:
وها أنا ذا بسـرّ الحب تعلو جبهتي الغـرّاءْ
وباسم الشوق باسم الحب تمتلئ القلوب ضياءْ
أتيت بكفي المرفـوع خالية من البغضــاءْ
لقد وصلت إلى حالة تشبه حالة الصوفي التي تقوم على الانفصال من أجل الاتصال، وهي مرحلة جدّ شاقة على الشاعر والصوفي معاً، مرحلة تعني التخلص من الاغتراب النفسي والجسدي داخل العالم، والترفع عن الأنية التي مآلها السقوط في براثن الفقد، وهذا يقتضي سفراً لا نهائياً إلى المقر الأخير الذي ليس بعده سفر، حيث إن الأمر صار تحولاً عن طينة سوداء إلى نور وضاء، ومن هنا فإن الاتصال في النهاية يعني انفصالاً كلياً إلا عن الموجود الحقيقي الذي دلّت عليه الأسماء بحقيقتها:
خلقنا من تراب الأرض من روح بلا أشباهْ
توهّج هيكلي يعـلو ثريّاً تحت ظل مـداهْ
وهذا السر مكنون قريب داخل النفس، وقليل من ينظر فيها ليرى ما أُعدّ فيها من أسباب الكشف والتأويل:
أما أوجدتني في الخلق ثـم منحتني التفسيرْ!
أما سـويت لي نفساً أمــا ألهمتها التغييرْ!
أما أغرقتني عشقاً بعشقك صرت ثم أسيرْ!
هذا الديوان يعد كشفاً آخر لتجربة تأخذنا إلى ما يشبه تجارب الصوفية الذين عرفوا بما يطلق عليه «الحب الإلهي» ذلك الحب الذي صنع من صاحبه أنموذجاً حياً لصحوة النفس، واحتراقها من أجل الكشف والمعرفة، ورغبتها في سبر أغوار الأشياء التي ما وُجدت إلا لتعطي معنىً من المعاني، كان على كل نفس أن تعي هذا.
هذا الديوان يستخدم لغة تأتي من طراز الشعر الكلاسيكي المنظوم، وهو ما أعطى الشاعرة مساحة لا بأس بها من التعبير والتأويل، حيث استخدمت المحسنات استخداماً مانحاً لما تريده الشاعرة، ومعاوناً في تفسير ما تموج به النفس، وجاءت الاستعارات تترا لتصل ما بدأته، وتعطينا نموذجاً حياً صُنع على القصيدة العمودية، والتي تكاد تستعصي على كثير من شعراء هذا الجيل، ولكن (د. زينب أبو سنة) أثبتت لنا أنها قادرة على هذا، ولديها ما يؤهلها لمثله سيما وأنها تمتلك لغة رصينة جزلة، معبرة مغنية عن السؤال، كاشفة عما يعتلج القلب من الأحاسيس والمعاني:
أنا لا أكتب الأشعار فالأشعار تكتبني
قصائد منتهى عشـقي من الهادي تقـرّبني
وكوني أينما يسعى لوجه الحب يجـذبني
هوامش
(1) حقيقة الأسماء شعر د. زينب أبو سنة-دار أفاتار للطباعة والنشر- 2014م.
(2) علاقة اللغة بالفكر الديني من خلال التأويل: حمود السعفي، مجلة حوليات التونسية، العدد 36 لسنة 1995م- ص 333.
(3) التعرف لمذهب التصوف: الكلاباذي- تحقيق محمود أمين النواوي- مكتبة الكليات الأزهرية- القاهرة- ط الأولى- ص184.
(4) دراسات في الفلسفة الوجودية: د/عبد الرحمن بدوي- مكتبة النهضة المصرية- 1966م- ص20.