أدب

أثر الهوية الأنثوية في الهوية الأجناسية

رواية بغداد وقد انتصف الليل فيها للأديبة التونسية حياة الرايس أنموذجا

عثمان بنسالم | باحث في الأدب العربيّ

توطئة
يبدو مشروع الكتابة الذاتيّة الأنثويّة العربيّة مشروع إعادة بناء للهويّة الّتي تقاوم ما استقرّ من دونيّة وإقصاء للمرأة في عقلية المجتمع وصفحات التّاريخ بل في طبيعة اللّغة نفسها.و لا تشذّ “بغداد و قد انتصف اللّيل فيها”لحياة الرّايس1 عن هذا المشروع الهُوويّ والإبداعيّ،وفيه تقصّ”حياة”حكاية رحلتها المعرفيّة الجامعيّة من تونس إلى بغداد في أواخر السبعينات و بداية الثمانينات من القرن العشرين مستعرضة أثر المكان والزّمان والذوات في نحت هويتها الفذّة النيّرة…و لكنّ سبيل صياغة المشروع و خلقه لا يخلو من إبداع متميّز يثير الجدال و السؤال و التّفكير فيما يتعلّق بأجناسيّة الكتابة الّتي تصطبغ لا محالة بمشروع إثبات الهوية و ترسيخ فرادتها.

هوية النص الأجناسي: الغموض والتعدد
يستعصي نصّ حياة الرّايس على الاندراج اليسير في خانة جنس من الأجناس الأدبيّةّ النّثريّة الحديثة سواء تلك المنتمية إلى المعاقدة التّخيلية أو المنتمية إلى المعاقدة المرجعيّة.فلو نظرنا في غلاف الكتاب لألفينا ما فيه من عتبات نصّيّة محيلا على معاقدة تخيلية من ذلك العنوان الشّعريّ الغامض:”بغداد و قد انتصف اللّيل فيها”الذي ينهض بوظيفة الإغراء و التّشويق والتّحفيز السّحريّ…و يزداد الأمر تأكّدا بتكرار هذه الجملة المفتاح في فاتحة الحكاية لتبدو كلازمة قصيدة حرّة تعلن عن مكان وزمان واقعيين، لكن أيّ بغداد؟و أيّ منتصف ليل؟ ما هو موقعهما من التّاريخ و الحياة و ما صلة الذات بهما؟…و لكأنّ العنوان يوجّه ذهن القارئ مباشرة إلى صورة بغداد كما هي في ذاكرة اللّغة و تاريخ الكتابة:الحضارة و التّاريخ، و المجد و الخلود،و العروبة والأمميّة،والمعرفة والحكمة،و الشّعر والسّمر والخمر والأمر،وحكايا شهرزاد…بيد أنّ هذا البعد التّخييلي سرعان ما يتزعزع بالعنوان الفرعيّ الذي يظهر في بداية الكتاب: “مذكراتي الجامعية في بغداد2″و منذ هذه اللحظة يبدأ العقد القرائيّ في التّشكّل والتّجلي ويبرز الميثاق المرجعيّ الذاتيّ.و هكذا نغدو أمام أدب رحلة أنثويّة معرفيّة تصنع الذات من خلالها كيانها ومصيرها مستقلّة عن الانكماش الأنثويّ متمرّدة عن الخضوع،و تكسر الاحتكار الذكوريّ لإبداع الفكر والجمال وإنتاج العلم.و الحقيقة أنّ المعضلة الأجناسيّة في نصّنا بعيدة الغور فهل نحن إزاء رواية كما يعلن الغلاف أم إزاء سيرة ذاتيّة ؟ أم إزاء مذكرات؟و لتدقيق الأمر ننظر في توطئة أولى للمؤلفة 3:
” بغداد
و قد انتصف الليل فيها
رواية سيرة شخصية و سيرة -مكان –يتراوح بين تونس
و بغداد و سيرة أشخاص عاشرتهم و عاصرتهم .
فإذا هي وثيقة ثقافية و اجتماعية و سياسية و حضارية و تاريخية
على العصر .(…)
تكشف المبدعة من خلال ما تقدّم الطبيعة الكليّة لنصّها و الغايات المنشودة من هذه الكتابة الذاتيّة مثل التّوثيق الثقافيّ و الاجتماعيّ و السياسيّ و الحضاريّ و التّاريخيّ و الشهادة على العصر و حفظ ذاكرة الـــمكان و الزّمان و استعادة الزمن المفقود و إنشاء ذاكرة مشتركة مع القارئ.و ليست عبارات التصنيف الأجناسيّة دقيقة عند الكاتبة بل هي أقرب إلى التفاعل العاطفيّ الوجدانيّ الأنثويّ مع النّصّ المُبْدَعِ أو هي امتلاك جديد للغة الإبداع و النّظر إليه. و هكذا نقف أمام ذات أنثويّة امتلكت الوعي بذاتها و بالعالم و بالنّاس من حولها بل أصبحت حافظة للذاكرة الجماعية بمختلف أبعادها و هذه الأدوار الجديدة تدلّ على خروج المرأة المبدعة من دائرة الانفعال و الحجب و الإخفاء إلى دائرة حفظ الجماعة و روحها و قيمها و جمالها .” فحياة الرّايس” تكسر الحصار على الذات الأنثوية و تكسبها شهادة الانتصار و الافتخار بصنع الكيان الجوهري الذي يصون ذاته و ذات الجماعة و ذاكرتهما معا .و هذه أدوار ذكوريّة تفتكّـــها المرأة الّتي تشبه “حياة الرّايس”.و في التّوطئة الثانية- على قصرها- دلالة كثيفة4:
“قدري أن أكتب خلودي بالكلمة
كوهم جميل يساعدني على البقاء”
و لا شكّ أنّ المعنى الأساسيّ الذي تحيل عليه التوطئة هو الكتابة في جوهرها و في كليّاتها. فالمؤلفة على وعي دقيق بخطر الكتابة فهي “البوابة المفضية إلى تأسيس التاريخ و بناء الذاكرة الجمعية التي تحفظ مرجعيات الجماعات البشرية الثقافية منها و الإبداعية على حدّ السواء5.”و ما ينبغي ملاحظته هو سيطرة فكرة الخلود على المؤلفة و وعيها بطابعها الأسطوريّ و لكنّ نشدان الخلود يتحوّل من البطولة الذكوريّة إلى البطولة الأنثويّة.فمن يصنع الملحمة اليوم هي المرأة.و الكتابة اليوم،تكشف عن عظمة الأنوثة،لا تلك الّتي تهب الحياة فحسب بل واهبة الخلود،متحدّية الموت6.و إذا ما نظرنا في الإهداء7 تعود الحيرة من جديد فهي تهدي إنتاجها إلى:”(…)جبرا الذي حرّضني على كتابة الرواية(…)و سهيل إدريس الذي انتظر روايتي طويلا(…)” و يشدّنا في هذا الإهداء أمران رمزيان يبددان الحيرة نسبيا:أمّا الأول فهو أنّ الرواية الموعودة روايتها هي(أي قصّة ذاتية ، نصّ ذاتي) و كأنّ فعل الكتابة عند المرأة حميمي بطبعه.أمّا الأمر الثاني فهو أنّ من حرّضاها على الكتابة- كتابة ذاتها روائيا- كانا رجلين أو هما / نموذجان/ ذكوريان في الكتابة، لكنّهما أنجبا نموذجا أنثويا في الكتابة.و ما نخلص إليه بشكل مبدئي أنّ الهوية الأنثوية للمبدعة ليست في علاقة صراع مع النموذج/ الذكوريّ المبدع بل هي ابنته و نبته،و طلعه عنفوانه،و أمله و انتظاره.و هذا النموذج يسلم المشعل للذات الأنثويّة.فنحن اليوم شهود في حضرة هذا النّصّ على تحوّل فعل الكتابة من ذكوريّته القديمة إلى أنثويته.و عن مثل هذا الحدث تقول جليلة الطريطر8:”و لا شكّ في نظرنا أنّ قيمة افتكاك المرأة للسّلطة القلميّة يعدّ في العصر الحديث علامة تاريخية فارقة على خروج الثّقافة الحديثة من طور احتكاريّة الرّؤية الذكوريّة للعالم،إلى مستوى توسيع المنظور و تعدّدية تشكيل الجغرافيا التّاريخية لواقع الحياة و الثّقافة العربيين”.

الهوية والأنوثة مفتاحا للقراءة الأجناسية
نرى أنّ الهويّة الأجناسية للنّصّ لا تفكّك شفرتها إلاّ بالنظر في الهويّة الجندرية أي في طبيعة الذات الكاتبة و ثقافتها و تجربتها الحياتية و الفكريّة والنّفسية…فلمّا كانت “حياة الرّايس”ذاتا متمرّدة منذ نشأتها تعشق الارتحال في المكان بين المدينة العتيقة و المدينة العصرية و تعشق النقد و التفكير فلا تسلم عقلها إلاّ للتّجربة و الاختبار و يقودها حدسها و شوقها كي تتعرف على الأشياء و الأكوان.و تحبّ رحلة الكتب و مصاحبة علماء “الأسفار”و تعشق المرأة فيها أمّا و عقلا،و ربّة و تهوى الأدب و تدرس الفلسفة.و تُخرج من الرّجل الكتوم (الرفيق فارس)المنغلق على أسفار السياسة كلمات الحب و تنتصر.و تمارس الصحافة، و تتعرّف على الأعلام في العصر و المصر.و تجابه الحرب…و تغضب من سلطة الرّجل “القروسطي” و تحزن و تفرح …من الطبيعي ساعتها أن يكون نصّها منفتح المرجع على ذاتها و تاريخها،و التّاريخ الذي كانت شاهدة عليه.و لذلك نعتقد أنّ هذا النّصّ”مغامرة سيرذاتية” كما عبّرت عنه النّاقدة”جليلة الطريطر”في فاتحة الكتاب9.
و من المفيد أن نذكر أنّ الباحثة نفسها استنبطت قراءة أطرف لجنس نصّنا عندما اعتبرته:محكيّ سفر معرفيّ10.و الحقيقة أنّ هذا التّصوّر تصوّر خبيرة بميدان أدب الذات و ما فيه من ألوان و أجناس فرعية و أصناف.و قد انتهت الناقدة في عملها إلى نتائج قيّمة من أهمها بيان قيمة السفر باعتباره موضوعا معرفيّا و تمثيلا ثقافيا ،يعكس نضال الكاتبات العربيات ضدّ الأدوار الجندرية الّتي تُفْرَضُ عليهن و تقمع طموحهن للحرّية و الانعتاق و الإبداع و العظمة.و من النتائج المهمّة نقضها لتصوّر”قوسدروف”الذي يعتبر الملفوظ الذاتيّ منغلقا بالضرورة على ذاته تواصليا عندما اعتبرت أنّ استدعاء الآخرين إلى عوالم النّصّ الذّاتيّة شرط لا بد منه لفهم الأنا11.
و رغم إقرارنا بدقّة نظر الباحثة و رصانته فإنّ في النّفس حيرة لا يحسمها رأيها الذي سلف ذكره.و من أسباب الحيرة أنّ هذا النّص منفتح على الرّواية كشكل من أشكال الكتابة و لكن ليس في طبيعتها المتخيّلة بل في إطار تعاقد مرجعيّ.و لا يعني ذلك غياب البعد الرّمزيّ أو العاطفيّ فصورة الذات تتسربل بصورة شهرزاد منذ العنونة و صولا إلى الأحداث و العلاقات بين الشخصيات و قد نبهت إلى ذلك جليلة الطريطر إذ قالت:”هل انتهت فعلا حكاية شهرزاد بانتهاء ألف ليلة و ليلة ؟ هل سكتت شهرزاد نهائيا عن الكلام المباح؟هذا النّصّ ليس إلاّ استئنافا للرّحلة ذاتها و الدّفع بها إلى مداها التّاريخي المحتوم…12″و في رأينا لا يعدم هذا النّصّ حضور أشكال مرجعية مختلفة خاصة” البورتريه و المذكرات”.فنحن إزاء حوارية أجناسية ذاتية مرجعية تاريخية.و سنحاول مزيد تعميق هذه القراءة عبر النّظر في بنية النّصّ من منطلق عناوين فصوله: نلمح بداية انقسام هذه “المغامرة “السيرذاتية” إلى تسعة و عشرين فصلا.يحمل كلّ واحد منها عنوانا (و لا نريد الخوض في الرمزية القمرية و عالم الخصب والولادة)..ماعدا الفصل الأوّل13 الذي لا عنوان له.فكأنّ عنوان الكتاب ينوب عن العنوان الفرعي و يتأكّد ذلك بتكرار لازمة:”بغداد و قد انتصف اللّيل فيها”تسع مرّات داخل الفصل ذاته.و كأنّنا بإزاء حالة تغنّ و نشيد،وطقس استحضار للذاكرة، و استدعاء للمكان و الزمان و الحكاية.و تتعمّق الحالة “الطقوسية” التّوليدية بترديد أسماء الأماكن والذوات والأزمنة: فمن الأمكنة: سيارة المرسيدس، أقسامنا الداخلية، الوزيرية،بغداد، تونس،بلاد شهرزاد،الشرق،الغرب،السّحر كلّه،جفاف صحراوي ،بساط الريح،قصر العباسة البيت،الطائرة،العراق. ومن الأزمنة:انتصف اللّيل،6 و7 سبتمبر (أيلول) من سنة 1977، قلب اللّيل، حافة الزمن، مفارقة اللّحظة… ومن الذوات:صوت المذيع،أربعة طلبة،البنت الوحيدة،علاء الدين،أبي،هارون الرّشيد،العبّاسة،جعفر البرمكي،أروى القيروانية،أبو جعفر المنصور، محمد مزالي…و ما يلاحظ هو المزيج بين الماضي و الرّاهن و التّاريخي و المعاصر والذاتيّ و الجماعيّ و الواقعيّ و الخياليّ…و نستنتج أنّ المرجعية في هذا الفصل مثلا، نفسيّة و واقعيّة في آن واحد.فالذات الأنثويّة تؤرّخ لانفعالها بالحدث و السّفر و المكان و صوت المذيع و سحر لغته و إلقائه، لتنفتح على سحر الشرق القديم .فالتاريخ ها هنا عاطفيّ و جماليّ قبل أن يكون وقائعيّا.هو تأريخ للحظة إنسانيّة عاطفيّة.
و من العناوين الفرعيّة للفصول ما يعتني بأحداث حياة المؤلفة الّتي تتطابق هويّتها مع الرّاوي والشّخصية. مثال ذلك الفصل الثاني14،ساعة الوداع الحارقة “…نواجه في هذا العنوان طبيعة نفسية للخطاب بالتّركيز على النّعت:”الحارقة”،و صفا للوداع و في نظرنا هي ساعة الولادة و الانبعاث بما فيها من ألم.ألم التّشكّل الجديد المستقلّ عن العائلة و حتّى عن الوطن الأمّ.و من العناوين ما يشي بالطبيعة المرجعيّة للكلام و بالغاية التأريخيّة لذات من الذوات قد تكون شخصية معروفة عامّة أو شخصية قريبة من ذات الكاتبة و عالمها الاجتماعي المصغّر ومن أبرز الأمثلة على ذلك فصل: تلك “الأمّ الأسطورية15، فالرّايس تؤرخ أو ترسم بورتريه”أمي بيّة “وفيض عاطفتها التي تضاهي عاطفة “عشتار”.و هاهنا تنفتح المغامرة بجلاء على البورتريه.
و تترسخ أيضا في أمثلة أخرى كالفصل حول سقراط بغداد (مدني صالح)16 ،أو الدكتور ياسين خليل17 أو جبرا المقدسي/ البغدادي18،و لكنّ هذه الفصول الّتي تبدو”بورتريهات”لا تعدم نسق كتابة المذكرات فهي شهادات حية على شخصيات بعضها مؤثر في أجيال برمتها و ثقافة كاملة.و من ثمّة لا مفرّ من تأكيد الحوارية الأجناسيّة الذاتيّة أو المغامرة داخل هذا النّصّ.و هي لا تنفكّ عندنا عن رابط هو الهويّة الأنثويّة للكاتبة .ذلك أنّها تعيد خلق الكتابة المرجعية الذاتية و تلدها من جديد في صورة جامعة ،هي مغامرة جسورة في الإبداع و اختراق التقاليد المألوفة و السنن المكبّلة للقول .و بالتالي ما يلمس في النص من سيرة ذاتية أحيانا و مذكرات حينا و بورتريه حينا آخرهو من باب الشهادة الحقيقية على ما واكبته الذات و ما لامسته بصدق تغيب عنه قيود النواميس و السنن. كأنّ الهاجس الذي يحرك الكتابة مقاومة الزمن و محو الامّحاء الذي يهدّد الذّاكرة وفي هذا الإطار ندرج فصولا “كالمسيحيات العراقيات”19،مذكرات المؤلفة و الشهادات الّتي جمعتها عن واقع الحياة الطائفية الدينية في الشرق.أو شهادتها و مذكّراتها حول طبيعة الحياة الجامعيّة في “كليّة الآداب”.

بغداد و قد انتصف اللّيل فيها” نص تخومي
إنّ المؤلفة”حياة الرّايس” قد صاغت ميثاقا مرجعيا ذاتيا تصرّح فيه أنّ الرواية التي سيقرؤها القارئ متطابقة مع الأحداث الواقعية والشخصيات الحقيقية الّتي خبرت التعامل معهم . وكشفت عن حضور هاجس التأريخ للذوات وللمكان و الزمان فتأكد حينها انفتاح الكتابة الذاتية على الملفوظ التاريخي . و أطرف من ذلك أن ّ الكتابة تشكّلت في قالب حواري أجناسي ذاتي عبر حضور السـيرة الذاتيّة و البورتريه والمذكرات.لا بل تحاور النّصّ مع شكل الرّواية مع إكسابها لمعاقدة مرجعيّة لا تخييليّة . ونضيف إلى ذلك سعي الهويّة الأنثويّة منذ بداية هذا النّصّ،وخاصة في الفصل الأول إلى إعادة امتلاك ناصية اللّغة.و تحويلها من الذكورية إلى الأنثوية عبر اتخاذ أسلوب في الكتابة شعري و عاطفي و وجداني كأنّه النشيد أو الغناء الفاتح الطقوسي، لعودة اتّصال الذات بالمكان و تحميس الذاكرة و تهيئتها للحمل بالماضي و إعادة إنتاجه عبر الكتابة قصد نقله من الحدوث إلى الخلود .و آيات ذلك منثورة مركّزة في الجملة /اللازمة:بغداد و قد انتصف اللّيل فيها ،و في رخامة صوت المذيع و في الصور الشّعريّة الّتي تعكس أنوثة اللّغة أي قدرتها على الولادة و التّجدّد و صنع الجمال من قبيل وصفها لذاتها وبرنامجها الوجوديّ:”لا أملك إلاّ حفنة أعوام لم تتجاوز العشرين: طريّة، نظرة،مشحونة،مجنونة بحبّ المغامرة والسفر،و الشغف بمصير جديد ،أحسب أنّني سأصنعه بيديّ،غير الذي كتب لي و ولدت عليه20. و لا نحسب هذا البورتريه الذاتيّ ذي النّفس الشّعري إلاّ ميثاق الوجود الأنثويّ المنشود في صلة بالمكان والزّمان والآخرين.وتزداد فتنة اللّغة عندما تصنع المفارقة بين الذكر و الأنثى أو بين المتصوّرات الذكوريّة والمتصوّرات الأنثويّة إذ تذكر أنّ أباها21،” يحنّ إلى بغداد،(…)بلاد هارون الرّشيد”و أنّها تسافر إلى”بلاد شهرزاد لمواصلة الحكاية(…)و التّوحّد بعشتار ربّة الحبّ و الخصب”.فكانت اللّغة مليئة بذكر النساء و الأنوثة:بغداد،شهرزاد ،عشتار، العّباسة،زبيدة ،أروى القيروانية…لتتماهى مع الهويّة الأنثويّة و لتتصالح اللّغة مع ذات الكاتبة/ المرأة وتعبّر عن وجودها الخاص.و إنّنا إزاء ملفوظ مرجعيّ ذاتيّ و محكيات تراهن على ابتعاث الماضي و التّأريخ له و تخليده عبر لغة معبّرة عن هويّة مخصوصة متميّزة هي الهويّة الأنثويّة الفاعلة.و هذا كلّه يحملنا على القول أنّ نص الرّايس نصّ تُخُومِيٌّ يقع على تخوم الرّواية و السيرة الذاتيّة و المذكرات و محكيات الطفولة و محكي السفر المعرفيّ و لا يعدم البورتريه و لا يخلو من النّصوص الأنثربولوجية و لا من الرسائل الخاصة. فبغداد نصّ الحياة بتعدّدها و تنوّعها وتناقضاتها.فيصبح مشروع الرّايس مشروع الهويّة الأنثويّة الغاضبة المناضلة الباحثة عن المجد و الخلود خارج الأدوار الجندرية المتوارثة المفروضة و كان سبيلها المغامرة السفرية المعرفيّة و مغامرة الكتابة:”مسكت بيدي على الحرف كالماسك على جمرة في زمن تزاحمني فيه بنات جنسي و تتحدينني في مواجهة الموت بما يتدفق من أرحامهن.و كما تحمل الأمهات أطفالهن و كما حمل جلجامش عشبة الخلود حملت الحرف ليكون الشاهد الوحيد على الحضور بعد الغياب22.”

خلاصة
الهويّة الأنثويّة في “بغداد و قد انتصف اللّيل فيها” تشكّل هويّة النّصّ الأجناسيّة فتنشأ القصّة على التّمرّد والتّعدّد و التناقض وتتّصل بالخيال و ترتبط بالمرجع و تركّزعلى حميمية الذات الأنثويّة الكاتبة في صلتها باللّغة والمكان و الزّمان و الذوات الذكوريّة و الأنثويّة و نضالها ضدّ سلطة الأب أو الزّوج و كفاحها من أجل سلطة الكلمة ولـواء القلم.من أجل ذلك كان النّص تُخُومِيًّا متعدّد الهويّات ينتمي إلى منظومة الكتابات الذاتيّة و لكنّه يوظّف أساليب الرّواية و يتقنّع بها لا لسبب فنيّ في المقام الأول بل لأسباب نفسيّة أنثويّة. فالرّواية الّتي يجب أن تُرْوَى وأَنْ تُخَلَّدَ في إحساس الرّايس هي روايتها هي، كأنثى تصنع العظمة لذاتها و بذاتها،بمغامرتها القُلَّبِ، فهي شهرزاد حينا و حينا السندباد.و من الأدلّة على ذلك قولها:” لشدّ ما كانت عبارة وراء كلّ رجل عظيم امرأة تزعجني وتربكني و لا تضعني في مكاني الصحيح.كما أنّها تهمشني وتقصيني و تبعدني عن مدار العظمة.تركلني للوراء و تحجبني في الكواليس.ألا يمكن أن أكون عظيمة أنا أيضا(…)23″فهذا المحكيّ الذاتيّ لبنة في مشروع عظمة الهويّة الأنثويّة و ثورتها على كلّ ما استقرّ بفعل الذكوريّة حتّى على المستوى الأدبيّ الأجناسيّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى