أدب

قراءة ذرائعية في رواية الملهاة الفلسطينية (سيرة عين) لـإبراهيم نصرالله

بقلم د. عبير خالد يحيي

      تنتمي الرواية إلى نوع الرواية السيرية الغيرية، المغموسة بالخيال التاريخي، وقد كشف الكاتب اسم بطلة السيرة وتاريخ ميلادها ووفاتها عبر إدراج أورده قبل فصل الاستهلال، مع الإقرار وتأكيد لحقيقةالشخصيات والوقائع:
• المصوّرة كريمة عبود 1893- 1940
• استندت هذه الرواية إلى شخصيات حقيقية ووقائع حقيقية، لكنها بُبنيت بالخيال.
ومعنى ذلك أن الكاتب تدخّل بالشخصيات والوقائع الحقيقية بمعالجة فنّية من خلال التخييل ليقدّمها للمتلقي بشكل أدبي فني من جنس الرواية.


العنوان:

    (سيرة عين): طبعًا هو عنوان مثير ومشّوق، وقد درجت العادة أن تُتبع السيرة باسم صاحبها، لكن الكاتب استخدمة تقنية أسلوبية بلاغية وهي تقنية الكناية عن موصوف، حين رمز إلى المكنّى عنه (المصوّرة) برمز (عين)، وهو تعبير فلسفي سيرد تسلسل تجذيره في متن العمل كثيرًا، مثلًا، قول البطلة:
– …. ولكني حين أنظر إلى الأشياء أحس أنني كاميرا أيضًا.
– عين + عين، كم يساوي؟!
– تساوي عين واحدة، هي عين الكاميرا.
وهكذا، سينقلنا الكاتب من خلال العنوان فقط إلى العديد من المسائل الفلسفية المتعلقة بموضوع العين والكاميرا والصورة، ولم يغفل الكاتب، من خلال العنوان أيضًا توجيهنا، إلى ثيمة أخرى مهمة جدًّا وهي التي تشكّل استراتيجيته في معظم كتاباته، وهي الثيمة الوطنية حيث ألحق بالعنوان عنوانًا آخر(الملهاة الفلسطينية)، جعله يسقط عموديًا، في صورة الغلاف، على أفقية اسمه (إبراهيم نصر الله) والعنوان الرئيس(سيرة عين). فهو الكاتب الغارق في يم قضية وطنه المحتل فلسطين، يكتب ملحمة المقاومة والشهادة لشعب مرابط عبر ما يزيد عن قرن، وكثيرًا ما مُنعت كتبه من المشاركة في معارض ومسابقات، بسبب استراتيجيته الفكرية الوطنية المقاومة.
صورة الغلاف:

    صورة شخصية حقيقية للمصوّرة كريمة عبود، بالأبيض والاسود أخذها لها المصور سي ساويدس وإلى جانبها كاميرا، تمسك بيدها زر الالتقاط، جاء ذكر تلك الصورة في المتن الروائي.
البؤر الفكرية التي حفل بها العمل:
تظهر بوضوح معالم السيرة الغيرية للمصوّرة الفلسطينية كريمة عبود (1893- 1940) والتي رائدة في عالم التصوير، وأول امرأة عربية امتهنت هذا الفن الفوتوغرافي الذي كان حكرًا على الرجال، ونافست به أعتى مصوّري ذلك العصر، ابنة القس سعيد،قس الكنيسة اللوثرية في بيت لحم، الذي آمن بنبوغ ابنته وشغفها وإصرارها وقدرتها على الوصول إلى المعنى الفلسفي الموغل في العمق للصورة، باعتبارها فنًّا جوهره الإنسان الحي بكل تعابيره، ومدى تأثير الشمس والضوء الآني على ملامح صورته، ناسفة نظرية الغربيين الذين عكفوا على تصوير الطبيعة والجمادات بعيدًا عن روح الإنسان، تاركين هذا الجوهر للوحات الرسامين:
… أكثر ما كان يحيّرها في صور الأجانب، التي يلتقطونها في فلسطين، فهو كيف يحضر المكان ويغيب الإنسان، وكيف يصرون على أن يقتلوا جمال المكان، وهم يجرّدونه من الحياة التي تضج فيه.
لم يكن تمرد كريمة في عالم التصور فقط، بل كان ممتدًا نحو الواقع الاجتماعي الذي حجّر المرأة في مواقع التربية الأسرية وربما التعليم على أبعد نطاق، فتمرّدت على تلك الصورة النمطية للمرأة، واستطاعت أن تنتزع حقها في الحرية والتعبير عن ذاتها الوثّابة نحو كل عمل نهضوي جديد، يقرّ بقدرتها على التعامل معه بسهولة ويسر، فكانت أول امرأة تقود وتمتلك سيارة تجوب بها البلدان بحثًا عن التقاطات فريدة لمعالم عربية وفلسطينية مختلفة، تعج بحيوية الناس الذين يقطنون فيها، متحدّية الخطط الشيطانية لمصوّرين ألمان من اليهود الذين كانوا يعرضون في المجلات والصحف الأجنبية صورًا لقصور وبيوت ومعالم مشهورة في المدن الفلسطينية، ويشيعون أن أصحابها يهود اشتروها منذ زمن، ويحضّرون أنفسهم للقدوم إلى فلسطين والسكن فيها، من ضمن تلك البيوت كان بيتهم! ما عرّضها لمحاولة اغتيال لم تنجح، لأن موتها بمرض السل كان أسبق من رصاصاتهم!.
الرواية هي سيرة فن التصوير، منذ نشأته، بالأبيض والأسود، وصولًا إلى محاولة تلوين تلك الصور، وظهور أول فيلم سينمائي ملوّن (ذهب مع الريح). كما عرضت لتجارب العديد من المصوّرين أمثال المصوّر الأرمني إيساي غربيديان، وخليل رعد أول المصورين الفلسطينيين، وعيسى الصوابيني، داود صابوخي، لويس صابونحي وأخيه جورج.
الرواية ترصد أيضًا حكاية عائلة فلسطينية عربية ابتُليت بكل لعنات الاستعمار البريطاني،بكل آفات عالمه الضبابي المظلم، ذُهلت لما قرأت أن المستعمرين البريطانيين كانوا يأمرون المعتقلين الفلسطسنيين العرب والأتراك “بالوقوف وسط مستنقعات منطقة بحيرة الحولة بأرجل مزروعة في الطين، وقامات تتأرجح كالقصب في ليالي البرد القاسية” .
“في تلك الليالي التي كان يموت فيها أحدهم، كانوا يحسّون بالبرد أكثر، ببرد جسده، لكنهم يواصلون التصاقهم، فلعلّ النهار النهار يكذّبهم، لكن النهار لم يكن يفعل، دائما كان يؤكد شكوكهم، حين يبتعدون عن بعضهم، ويرون جسدًا متيبّسًا مغروسًا في الماء كجذع ميت”.
كان كريم، الأخ الأصغر لكريمة من أؤلئك المعتقلين الذين نجَوا من الموت في المستنقع، لكنه لم ينجُ من مرض السل الذي اغتال حياته بعد أن انتقلت عدواه إلى أمه بربارا وأخته الكبيرة كاترينا، وكذلك إلى كريمة.
في الرواية أيضًا مخيال تاريخي عن الثورة الكبرى على الاستعمار البريطاني في العام 1936 والتي استمرت لمدة ستة أشهر متتالية، وكذلك عن المؤامرة الكبرى لإيقاف تلك الثورة من قِبل الإنكليزوالزعماء العرب الذين دعوا الثوار الفلسطينيين إلى إيقاف الثورة مقابل وعود كاذبة من الإنكليز بتحقيق العدل وحقن الدماء، وإشارة إلى البذور الشيطانية الأولى للاحتلال الصهيوني:
– لقد قُدّمت لنا الوعود، فتوقفت الثورة، ولكن، متى كانت وعود الإنجليز صادقة، لقد كان أشهر وعودهم للشريف حسين، أن تتحرر بلاد العرب، فماذا حصل؟ لقد منحوا هذا الوطن العربي هدية لليهود ما إن اجتازوا الحدود، بل منحوه لهم هدية قبل أن يجتازوا الحدود، واستعمروا وقسّموا ما استطاعوا استعماره وتقسيمه.
إن الرواية هي فعلًا عمل ملحمي تاريخي، وهي واسطة العقد في المشروع الروائي الكبير للكاتب “ثلاثية الأجراس” والذي أقامه على ثلاثة أعمال روائية هي: ظلال المفاتيح – سيرة عين – ودبابة تحت شجرة عيد الميلاد.
وللمعيار الفلسفي حضور بارز في هذا العمل، لقد طرحت البطلة مفهومًا فلسفيًّا خاصًّا للصورة، بالاعتماد على الشمس، حين لاحظت ما تتركه شمس الصباح من أثر في الصورة، شمس الضحى، شمس الظهيرة، العصر، الغروب، شمس الربيع، الصيف ، الخريف، الشتاء.ثمّ أدركت كريمة أن لكلصورة شمسها الخاصة، وأن لكل مصوّر شموسه الخاصة به، بعينيه.
فلسفة الغياب والصورة :
– الغياب والصورة لا يجتمعان.
فلسفة الاسم والصورة:
– الصورة أقوى من الاسم، أجمل اسم قد لا يساعدك على استحضار ملامح شخص، بصورة كاملة، لكن صورة واحدة كافية لأن تجعلك ترى عشرين وجهًا خمسين وجهًا، ومن يعرف ربما ستجعل الناس يرون في المستقبل ألف وجه.
فلسفة الخلود والصورة:
– … الاسم يذبل ما إن تفارق الروح الجسد، ويتحوّل غلى حروف حزينة، ملتفة على نفسها، متلاشية من ذاكرة كثير من الناس، لكن الصورة غير ذلك تمامًا، إنها تزداد قوة كلما رأيناها، كلما مرّ الزمن وأصبحت أقدم.
الرواية مكتوبة بأسلوب أدبي جميل جدًا استخدم فيه الكاتب العديد من التقنيات الأسلوبية، مشوّقة رغم شبح الموت المهيمن عليها منذ البداية إلى النهاية، إلا أنها مشحونة بالحس الجمالي اللغوي والمادي الطبيعي المستقى من علم البلاغة وعلم الجمال، إضافة إلى المضامين الكبرى والتي نجح الكاتب في طرحها ولو على مساحة هذه الرواية القصيرة نوعًا ما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى