الدراما والتزوير التاريخي
بقلم: علي جبار عطية
اعترف الكاتب حامد المالكي في لقاء تلفزيوني بُثَ قبل سنوات بأنَّ العمل الدرامي التاريخي إذا أراد أن يُسوَّق تجارياً فيجب أن يُزوَّر؛ لأنَّه إذا عرض كما ذكره المؤرخون فلن يشتريه أحدٌ لأنَّه لن يكون سوى حكم الحريم والغزو وغدر السلاطين والأخوان، وضرب مثلاً بتكليفه من المخرج صلاح كرم في تسعينيات القرن الماضي بكتابة مسلسل عن أبي جعفر المنصور، وكيف وضع يده على حقائق مخزية فرفض المخرج ظهور تلك الحقائق، وكلف كاتباً آخر، وأنجز المهمة المطلوبة! بل يسري ذلك حتى على الأعمال البدوية التي تُظهر صورةً مثاليةً لحياة البدو شكلاً ومضموناً !
يعيدني هذا الحديث إلى مسألة مدى مصداقية الطرح الدرامي للرواية التاريخية خاصةً للحوادث والشخصيات المختلف عليها، وكيف تصل إلى المشاهد على أنَّها حقائق يُعتمد عليها، ولا يعتريها الشك فحين يُذكر مثلاً اسم رابعة العدوية (رابعة بنت إسماعيل العدوي البصرية)(١٠٠هـ ـ ١٨٠ هـ) تتبادر إلى الذهن صورة الممثلة نبيلة عبيد مع فكرة أنَّ تلك الشخصية قضت شطراً من شبابها غير ملتزمة دينياً، وتمتهن الرقص، ثمَّ تابت، واعتزلت الحياة، وزهدت في الدنيا.. هذه الصورة رسخها في الأذهان الفلم السينمائي المصري (رابعة العدوية)/ ١٩٦٣ الذي كتبته سنية قراعة، وأخرجه المخرج نيازي مصطفى، ومثلته نبيلة عبيد، وبعد أكثر من ثلاث وثلاثين سنة لم تختلف المعالجة الدرامية والفكرية عن تلك الصورة النمطية في المسلسل التلفزيوني (رابعة تعود) /١٩٩٦ الذي كتبه يسري الجندي، وأخرجه صفوت الشقيري، ومثلته إيمان الطوخي، وهذا طبعاً محض تلفيق وافتراء على شخصيةٍ تابعيةٍ زاهدةٍ عابدةٍ عُدت من أعلام التصوف الإسلامي فضلاً عن كونها أديبةً وشاعرةً حسب ما ذكره المؤرخون ومنهم ابن خلكان في (وفيات الأعيان)، وفريد الدين العطار في (تذكرة الأولياء)،وابن الجوزي في (صفة الصفوة) وقد عاصرتْ عدداً من الأعلام منهم الحسن البصري، ومالك بن دينار، وأثنى عليها سفيان الثوري، ولو كانت لرابعة العدوية ورثة تدافع عنها لأقامت على مَنْ أساء لها دعوات قضائية !
وهناك مثل آخر هو الفلم السينمائي (الشيماء أخت الرسول)/١٩٧٢ الذي كتبه صبري موسى، وأخرجه حسام الدين مصطفى عن شخصية (الشيماء بنت الحارث) أخت النبي من الرضاعة، ومثلته سميرة أحمد فقد أظهرها الفلم مغنيةً في حين أنّها مذكورة كصحابية، وأخت للنبي بالرضاعة وأمها حليمة السعدية كما يقول ابن حجر العسقلاني في كتابه (الإصابة في تمييز الصحابة)أنَّ (الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى بن رفاعة أخت الرسول (ص) من الرضاعة واسمها حذافة). ولا يوجد أي ذكر لكونها مغنيةً فمن أي مصدر أخذ كاتب الفلم قصته إلا من خياله !
بعض الآراء ترى أنَّ هناك ضرورة درامية تقتضي إضافة بعض الأحداث أو حذف بعضها أو حجب بعض الصفات، وهناك مَنْ يرى أنَّ نجاح العمل أياً كان نوعه وحجمه رهين باتقانه فنياً بغض النظر عما يطرحه من أفكار أو معلومات، ويقع في ذلك الفخ كتاب دراما السيرة الذاتية فيظهرون محاسن الشخصية فقط دون عيوبها ويجعلونها إيقونةً !
المشكلة أنَّ عدد المشاهدين في العالم يفوق عدد القراء أضعافاً مضاعفةً وهنا تكمن خطورة المسألة. فيالها من معادلةٍ عجيبةٍ حين يكون هدف الجهة المنتجة تسويق العمل، وتحقيق أرباح من ورائه دون النظر إلى ذبح الحقيقة، وتلك مسألة تحتاج إلى مراجعةٍ ومكاشفةٍ مهنيةٍ وأخلاقيةٍ، وأنَّ تسويغ تزييف التاريخ بدعوى طلب العيش قضيةٌ إشكاليةٌ تثير الشبهات، والكثير من علامات الاستفهام التي تتعلق بنزاهة الكاتب ومبدئيته إنْ كانت له نزاهةٌ ومبادىءٌ !