تجليات الزمن الجميل
د. محمود رمضان
مبهجة هذه السيدة ستينية العمر، استوقفتني وقالت: عشت الحب بصوره وألوانه الزاهية، الرائقة، حب خالص لوجه الحب، مودة معطرة برحيق المسك، كل ما تقع عليه عيناك جميل، الناس، الشوارع، الحدائق ذات بهجة، معاملة السيدات في وسائل المواصلات بـ«اتفضلي يا هانم»، للاحترام الشديد في محلات بيع الملابس والأحذية والعطور، حتى محلات الخضراوات والفاكهة والجزارة، الجميع يردد «حضرتك»، لدرجة أننا كنا نقولها لعامل النظافة عندما يأتي كل صباح ليجمع أكياس القمامة من الشقق.
كنت تقرأ الروايات ودواوين الشعر والقصص القصيرة التي خرجت لتوها من المطابع، لتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وعباس محمود العقاد ويحيي حقي، وطبعات من مؤلفات العمالقة طه حسين والمازني وأحمد شوقي وحافظ ابراهيم ومصطفى لطفي المنفلوطي، وغيرهم من صفوة الأدباء والشعراء، كتب قيمة، أغلفتها رائعة، ورق مصقول، طبعات فاخرة، وبأسعار في متناول الجميع.
الكتب الدراسية في مراحل التعليم كانت بذات المواصفات، وفي المدرسة كان المعلمون والمعلمات يبذلون كل جهدهم، لا لننجح فقط، بل لنتفوق، ويخرج من بيننا العلماء والأدباء والمهندسين والأطباء والمحامين والقضاة والضباط.
في إجازة المدرسة كنا نتوجه إلى بلطيم أو الإسكندرية، هواء منعش، وبحر أزرق صاف، مياه رقراقة، نسبح فيها بحرية، لا مضايقات أو منغصات من أي نوع، وفي المساء نشاهد أفلاما في دور السينما، لكبار النجوم، شادية وليلى مراد وفاتن حمامة وكمال الشناوي وزكي رستم وهند رستم ومحمد فوزي وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وهدى سلطان وفريد شوقي وأحمد رمزي وعمر الشريف ومحمود المليجي وتوفيق الدقن وأنور وجدي وغيرهم، حتى أفلام اسماعيل ياسين لاتزال تضحكنا حتى اليوم، برغم مرور عشرات السنين على انتاجها.
شوارع القاهرة كانت تغسل كل يوم بالماء والصابون، الأشجار تروى في مواعيد محددة، كان خضارها زاهياً، وكان الهدوء سيد الموقف، سيارات قليلة، وشوارع فسيحة، والباصات والمترو غاية في الأناقة والنظافة والنظام.
انظر لملابس شباب وبنات الجامعة في ستينيات القرن الماضي، أناقة وجمال، احترام متبادل في قاعات المحاضرات والمعامل، تضبط ساعتك على دخول أستاذ الجامعة محاضرته، يعامل طلابه باحترام، ويشرح لهم باستفاضة، ويدخلون مكتبه ليناقشوه في ما أشكل عليهم فهمه، فيشرح لهم بصدر رحب، ويدلهم على المراجع التي توسع مداركهم في الحقل العلمي الذي يدرسون.
في الخميس الأول من كل شهر ترى جميع الشوارع خالية، وقد تحلق الجميع حول التليفزيون «الأبيض والأسود»، المتاح آنذاك، أو حول أجهزة الراديو الخشبية الضخمة، لنعيش أجمل سهرة مع حفل أم كلثوم.
معاملات التجار كانت بكلمة الشرف، وهي أقوى من الشيكات والكمبيالات، لذا لم تخسر تجارة واحدة آنذاك، فضلاً عن المنافسة الشريفة بين الشركات لإنتاج الأجود وبالسعر المناسب للجميع.
ونتيجة لكل ما سبق، كان العلماء علماء، يغزون العالم بعلمهم، في الطب والهندسة والزراعة والقانون والفلك وعلوم الفضاء، وغيرها، تتهافت كبرى جامعات العالم عليهم للتدريس بها.
ولأن مخزون الذكريات الرائقة الجميلة في قلبي وعقلي وروحي لا ينفد، فهو ما أجتره الآن.