في القدس، يبوس لا ينام الزمن
المحامي جواد بولس| فلسطين المحتلة
نفّذت قوات الأمن الإسرائيلي صباح يوم الأربعاء الفائت حملة تفتيش “لمركز يبوس الثقافي” الكائن في القدس الشرقية؛ وذلك بعد أن اقتحمت في موعد سابق من ذلك الصباح بيت مديرته، رانيا إلياس، واعتقلوها برفقة زوجها، سهيل خوري، أحد مؤسسي المركز الأوائل ومدير المعهد الوطني للموسيقى في المدينة.
ولقد أفرجت الشرطة عنهما بعد فترة تحقيق دامت أثنتي عشرة ساعة، تمحورت، حسب ادعاء الناطقة بلسان شرطة إسرائيل، حول مخالفات إدارية!
لقد سبقت هذا الاعتداء على “مركز يبوس” عدة حملات ضد مؤسسات فلسطينية، لم تكتفِ إسرائيل بتفتيشها وبمصادرة بعض محتوياتها فحسب، بل أمرت باغلاقها وبتعطيل خدماتها للمواطنين.
كان “بيت الشرق”، الذي وقف على رأسه الراحل فيصل الحسيني، أهم تلك المؤسسات وقلعتها التي أنذر سقوطُها، في حينه، بالانهيارات القادمة، وهو ما قد حصل فعلًا .
لن تتوقف إسرائيل عن ممارسة سياساتها بحق القدس وبحق مؤسساتها الفلسطينية وبحق مجتمعها؛ فلقد خطط قادتها، مباشرة بعد توقيع اتفاقية “أوسلو”، من أجل تقويض”هياكل” المدينة وهدم بناها السياسية والاجتماعية، وهندسة “قدس” أخرى؛ خاصة بعد أن شعرت اسرائيل كيف ينشأ في القدس مجتمع مدني سليم، بمنظومة مؤسساته الأهلية والشعبية والنقابية، ويعيش بهوية سياسية جامعة وواضحة؛ وبعد أن شاهدت كيف أصبحت القدس الشرقية في أعين العالم عنوانًا سياسيًا حقيقيًا وعاصمة فلسطينية يقصدها سفراء الدول، مساوين بينها وبين القدس الغربية.
شرّعت “الكنيست” في منتصف تسعينيات القرن الماضي “قانون تطبيق اتفاقيات أوسلو” ، حرّمت بموجبه نشاط أي مؤسسة يكون لها أي نوع من العلاقة، مهما كانت تقنية أو رمزية، مع السلطة الوطنية الفلسطينية أو مع منظمة التحرير؛ وحظرت بموجبه، أيضًا، عمل أي مقدسي/ة في المؤسسة الأمنية الفلسطينية؛ فغدا هذا القانون “شمّاعتها” لملاحقة وإغلاق عشرات المؤسسات، وفي مطاردة واعتقال عشرات النشطاء والقياديين المقدسيين بتهمة ارتباطاهم مع السلطة وخدمتها من داخل حدود المدينة.
نجحت سياسة ضرب المؤسسات الفلسطينية وملاحقة النشطاء والكوادر التنظيمية بخلق حالة “سبات وطني” افضى بدوره، مع مرور السنين، إلى انتشار حالة من العزوف عن الهاجس الوطني العام؛ وفتح المجال، في الوقت نفسه، لنشوء شرائح اجتماعية شعبية جديدة، بدأت مصالحها ترتبط بعناوين اقتصادية مقدسية حديثة الولادة وبمراكز قوى محلية مؤثرة.
وقد ساعدت اسرائيل بهدوء، الغائبة الحاضرة، على بلورة هذه العناوين وعلى تسمينها اقتصاديًا، كي تبرز بقدراتها وبكونها بدائل تشغيلية وخدماتية مقبولة ومؤهلة لتصريف شؤون الناس الحياتية اليومية.
لن نستطيع شرح جميع تفاصيل تلك التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي طرأت على المجتمع المقدسي خلال العقدين الفائتين، مع انه ليس من الصعب على المتتبعين تشخيص معالم المشهد المقدسي الجديد؛ فاسرائيل صارت حاضرة أكثر في شرايين حياة الناس، الذين طوّروا تلقائيًا علاقات متبادلة مع النخب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الجديدة؛ فالناس يراهنون وبعضهم يأخذون، واصحاب النفوذ يعطون ويدعمون وكأنهم بذلك يدافعون عن “قدسهم” باشكال نضال لا تتطلب بالضرورة دفع ضريبة الصدام المباشر مع الاحتلال ومع رموزه الفاعلة ولا اغضاب مؤسساته الناشطة في المدينة بشكل علني أو من وراء السواتر.
لا أقول إن اللعبة قد انتهت ومصير المدينة قد حسم، لكننا سنخطيء إذا لم نقرّ بأننا أمام عملية تشكل هوية/حالة من الانتماء “الإسراطيني” الملتبس، حيث تتراجع فيه اولوية المركب الفلسطيني وكونه الحاسم بلا منازع، وتنتصب إلى جانبه شخصية “مقدسية جديدة”، ما لم تواجَه فقد تولّد، بعد مخاض عسير، جيلًا من “مقادسة الـ 1967”.
لم تعتمد إسرائيل على ضرب المؤسسات وعلى منع النشاطات وملاحقة الناشطين، كوسائل وحيدة في حربها على المدينة؛ بل كانت سياسة محاصرتها وإبعادها عن سائر المناطق الفلسطينية، وقطع صلات الفلسطينيين، عبارة عن خطوات متكامله في خطة خلق القدس الجديدة.
كما ووظفت إسرائيل رحيل فيصل الحسيني واستفادت من فشل القيادة الفلسطينية واهل القدس انفسهم في ايجاد بديل له؛ فعاشت المدينة مع بداية هذا القرن وما زالت، حالة من الفراغ القيادي الحقيقي، الذي ولّد انقسامات عامودية وأفقية في المجتمع المقدسي وإلى تشتت في الرؤية الوطنية السياسية الوطنية التي كانت كفيلة بحماية مستقبل المدينة.
لقد استوقفني خلال الأيام الماضية تصريحان أصدرتهما عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، د. حنان عشراوي، وذلك على خلفية اعتقال محافظ القدس والاعتداء على مركز يبوس؛ حيث أدانت في كليهما ممارسات إسرائيل الإجرامية وانتهاكاتها المتعددة في القدس المحتلة، ودعت المجتمع الدولي بهيئاته وبمؤسساته ومنظمة “اليونسكو للتدخل من أجل ردع إسرائيل ووضع حدّ لجرائمها المتواصلة ومساءلتها وفرض عقوبات عليها”، واكدت أنّ “هذه الخطوات تاتي في سياق العدوان على القدس وتنفيذا ممنهجا لسياسة دولة الاحتلال، القائمة على تصفية الوجود الفلسطيني في العاصمة المحتلة وتهويدها وطمس الهوية والرواية الفلسطينينة..”.
إنه توصيف صحيح وتشخيص دقيق لوضع القدس الحالي، ولكن يبقى السؤال، إذن، ما الحل؟
قد يثير الاعتداء على مركز يبوس انتباه بعض الجهات الخارجية والمؤسسات الأوروبية ويدفعهم لاتخاذ موقف شاجب ومندّد بالاعتداء على واحدة من المؤسسات الثقافية التي من الصعب، حتى على من اعتادوا الصمت وغضّ انظارهم عما تمارسه إسرائيل بحق القدس ومؤسساتها وسكانها، تفهّمها أو تبريرها؛ فيبوس تعمل على إنتاج وتنظيم الفعاليات الثقافية المختلفة وتخاطب احتياجات المجتمع المقدسي الفلسطيني، بما فيها الفئات المهمشة.
لكننا نعرف أن مثل هذا الشجب، حتى وإن حصل، فلن يسعف القدس ومستقبلها؛ ونعرف، كذلك، أن النداءات للمجتمع الدولي، وإن كانت هامة وضرورية، فستبقى مجرد خرمشة قطة على لوح زجاج؛ فقبل اقتحام مركز يبوس، قامت إسرائيل يوم الاثنين الفائت، وللمرة السابعة عشرة، بسجن محافظ القدس عدنان غيث ومعه مسؤول فلسطيني ابن قرية قطنة هو جهاد الفقيه. ورغم هذه الهجمات والاعتداءات والاعتقالات المستمرة، على الأرض والحجر والشجر والبشر، لم نسمع صوت ذلك المجتمع الدولي ولا حتى “تخبيطه” المؤدب على باب التاريخ السخيف.
أصدرت الدكتورة حنان عشراوي قبل ثمانية أعوام بالضبط بيانًا ثمّنت فيه الموقف الاوروبي، وذلك في أعقاب تقرير أوروبي رسمي عدّد حينها خروقات إسرائيل الخطيرة في القدس؛ وطالبت في بيانها الدولَ الأوروبية بتبنّي خطط ملموسة لمساءلة إسرائيل ومعالجة الخروقات والتصدي لها بوسائل عملية على الأرض …
مضت ثمانية أعوام ولم يسائل أحد اسرائيل ولم يتصدى لها بوسائل عملية على الارض؛ بل ما زالت الخروقات الاسرائيلية مستمرة بوتائر متصاعدة لا تتوقف.
لا بأس أن نستصرخ ضمير العالم وأن نهيب باوروبا، لكننا سنبقى أبناء الهزيمة ونعرف يقيناً من خان قضيتنا وباعنا بثلاثين من نفط وفضة، فقبل نقر أكتاف أوروبا، علينا حماية ظهورنا من خناجر أشقائنا، ومنهم بعض المسلمين والعرب.
فلماذا نستصرخ أوروبا، هكذا كتبتُ وقتها، وكل يوم تتمايل نجمة داهود من على شرفة أمير أو سلطان مستخلف، وتبكي في القدس عذارى يبوس زمن الخيانة وصمت القبائل العاهر؟ ولماذا ستتصدى أوروبا لإسرائيل ولم تشهد منذ عشرين عامًا حشدًا حقيقيًا واحدًا لسواعد سمراء تطال الغيم كي تحلبه وتقدم لحفاتها دموعاً ومطرا؟
لماذا تتصدى أوروبا لإسرائيل والقدس تعاني ممن تركوها صيدًا خفيفًا ووقفوا يتشدقون في قلب عدسة حمقاء، أو في حلق دعاء مقاتل، أو ناموا على صدر صلاة بعد ان رقصوا في الولائم !
لا تحسبوا أن القدس/يبوس قد دجّنت أيها العرب؛ فيبوس، إن شئتم أو لا، هي الاسم الأول الذي أعطى لمدينة القدس نسبة إلى اليبوسيين، وهم قبيلة كنعانية بنت مدينة يبوس الأولى في موقع القدس الحالية.. هكذا كتب من أسسوا “مركز يبوس” بعد أكثر من 5000 سنة، وأضافوا: هنا حيث لا ينام الزمن “ما زال أحفاد اليبوسيين الأوائل يقيمون في القدس الشرقية، ويواصلون إحياء المدينة ثقافيًا وفنيًا..”
فهم ، رغم انف الخيبة، ينامون كي يصحوا على وطن.