الرسالة الأدبية الفائزة بالمرتبة الأولى، في مسابقة أدب الرسائل: مسابقة بيت الفنون بواشنطن

رسالة ديوجين الكلبي إلى امرأة غابت عنه منذ عقدين من الزمن

الكاتب: شرف الدين شكري | الجزائر 

رسالة ديوجين الكلبي إلى امرأة غابت عنه منذ عقدين من الزمن

“رسالة وجدها ممرّض في جيب رجل رحل إثر إصابته بالكرونا”

آخر رسالة كتبتها لكِ، كانت منذ أزيد من عقدين من الزّمن…

حينها؛ كان للورق طعمُ الأرض الجافة التي بلّلتها زخات مطرٍ أجدبٍ يأتي من أرض الشمال البعيدة ويخترق الحشيّ بكلّ عنف. كان للمطر طعمُ الصمتِ والوحدة والحلم، وكان الجسد يتماهى بعنفوانه وفتوّته التي لم تكن تؤمن إلاّ بك. كانت الأبدية طوعَ يداي. لم يكُن من الممكن للزمن أن يتحرّك.

أشاهدُ صورنا مجددا وقد أخرجتُها من خزانة الزمن خلسة، حتى لا يفضحني حنيني إليك أمام أبنائي…يالله !! كم زحف الزمن على وجهي ! كم أسلم شَعري لونه للدّهر !. وحدها العيون ظلّت تشعّ كرغبة طفل يرى الشّمس وجها لوجه ويستَكْنِهُ سِرّها الأبدي بإلحاح شديد. أما هذه اليدُ التي فقدت طعم القلم وانتقلت إلى الكتابة على الكمبيوتر الغبي الذي لا طعم ولا ريحة له، فهي اللعنة التي ظلت ترافقني حتى بعد أن سكَنتها رِعشةُ العمر.

لا أعرف قوّة رسالتي هذه على إقناعك بفلسفة الوجود ذاته الذي كنتِ تحبينه في، بعدما ضاع السوبرمان في تلابيب الكون وأضاع مفتاح قلبك كغبي ضحك منه/ عنه الزمن؟ أصبح السوبرمان أقرب إلى ديوجين الكلبي اليوم الذي يبيت في العراء، ويخفي عنه حجم الكون الغبيِّ ضوءَ الشمس. لا أعتقد بأن هناك امرأة بإمكانها أن تحب ديوجين. ثمّ، إنّ ديوجين، لم يكن ليسمح لنفسه بأن يختزل جنونه في امرأة ! أصلا ! لا أعرف لماذا أكاتبُكِ بعد كل هته السنين؟ سيكون من الغباء، بعد كل هذا العمر، أن استجدي القلب نبضا جديدا. لا الشّعر الرمادي ولا اليد المرتجفة ولا العيون الخائنة بإمكانها أن تطمع في إيقاظ قلبي من قبره. فلماذا أكاتبكِ؟ لماذا أضحك على نفسي بعد كل هذا العمر؟

لم أحسن كتابة الرسائل إلاّ لك. لا أومن برسالة رجل لرجل. الرسائل أصلها من القلب إلى القلب. من الرجل إلى المرأة. لكن ! هل يسمحُ الزمن، بعد مرور كل هذه السنين بأن يحتفظ للرجل بصفته، وللمرأة بصفتها ؟ أشعر أننا نعيش في مجرّة بلا جنس ! جنسٌ ثالث يولد بعد الخمسين، ويحتاج إلى أرض أخرى غير أرض سوبرمان التي كنتُ أعيش بها. من المضحك أن يعيش سوبرمان وديوجين على نفس الأرض ! هل أكاتبك مستجديا حبّك؟  هل يموت الحبّ فعلا بعد طول العمر، أم أنّه يغيّر فقط لباسه بعد أنّ حطّ رحاله وترحاله كثيرا على أفرشة الغرباء؟ كم نزل جسدي بعيدا عنك ؟ كم من سؤال فتحه جسدي أثناء غيابك على نفسه، وأجابتْ عنه أجساد أخرى غيرك؟ لم اقتنع بجسدٍ غير جسدك، لكنني أسلمت نفسي لقوة الأشياء. كم أستحي من الإقرار بهذه الحقيقة، غير أنني سأكون مضحكا أكثر من ذي قبل لو أنني أخفيت هذه الحقيقة…

ديوجين لا يسمح بأن يضحك عنه أيا كان..

فقدتُ حسّ التنكيت حتى..

لم اعدْ أضحك من انزلاق العمر على أرض مبللة بالمطر..كما سابق عهدي.

آه لو تعلمين كيف صارت الابتسامة شبه مستحيلة !

هل قدر الإنسان أن يغادر هذا العالم عابسا؟

قديما، كنت أرى في التراجيديا، حلبةَ صراع تحتمل كل أحاسيس البشر، لكنني اليوم أراها مرتعا للغربان ليس إلاّ. هل سينتهي بي الأمر إلى أن أصاحب الغربان ؟

أشعر بطرْق مناقيرها على زجاج غرفتي الآن..أقصد مناقير الغربان….وجوهها السوداء لم تعد تخيفني، فلا أحدَ يخاف من بني جنسه !

هل كان ديوجين الكلبي غرابا، هو أيضا في آخر حياته؟

كم صرتُ مملاّ وأنا أطرحُ كل هذه الأسئلة في رسالة إلى امرأة..

لم أحسِن كما في السابق كتابة رسائل الحبّ. وربما، بعد مرور كل هذه السنين لم أتعلّم كتابتها؟..أقصد رسائل الحبّ !

لم اسأل نفسي حين كنت سوبرمان، هل كنتُ مملاًّ حقَّا وأنا أكتب لك تلك العشرات من الرسائل؟ كم كنت جشعا ! لم أسألك مرة واحدة عن أنانيتي تلك؟ أشعر أنني كنت أنانيا جدا جدا.

أيمكنني سؤالك بعد عقدين ونيف عن شعورك تجاه رسائلي تلك؟

ياااااااه…كم كنت غضّا ؟

هههه..سيكون غريبا حقا أن تجيبيني بعد كل هذا الزمن عن خيبةٍ ارتكبتُها معك/ تجاهك قبل عشرين سنة.. !

مضحك أن أوبّخَ بعد كل هذا العمر !

أعلم بأن لباقتك لن تسمح لك بذلك، لكنني صرتُ أكثر حكمة في استكناه أحاسيس البشر الذين لا يحبون جرحَ الآخرين…أحببتك من أجل هذا قديما، ولا زلت أحبّك من أجل هذا حتى السّاعة…من المعيب تصريف فعل “أحبّ” إلى الماضي، لا؟

كنتُ أكاتبك بغرفتي الجامعية ملفّعا بالشتاءات الدافئة ..وهاأنذا أكاتبك اليوم، ملفّعا بخريف العمر الرمادي البارد، بعيدا عن عيون بناتي اللواتي لن تصدّقن أنّ في قلب أبيهم شعورا جميلا آخر، لغير أمهم التي غادرَتنا ذات عمر بعيد.

كلانا وحيدٌ اليوم،كما كان في سابق عهده، رغم أنّ أجنحتنا تخفي طيورا جميلة..وكلانا يذكر جيدا أرض المحبة التي جمعت بيننا ذات عمر…لم نطمع إلاّ في حلمٍ يومها، ولا نطمع إلاّ في حلم اليوم. هل نحن قدرُ الأحلامِ أم قدرُ الواقع المرّ الذي فرّق بيننا؟ كأننا حمامٌ زاجل يسافر بعيدا لكنه يعود إلى دار حلمه أبدا.. !

لستُ غرابا …أنا حمام..

كفّي أيتها المناقير السوداء عن هذا ! أريد أن أستريح لبعض الوقت.

لازلتُ بعدُ بالجنوبِ الموحش الذي يقف على رأسه سيّافُ القبيلة ذاته، الذي حكم عليك بالموت يومها… أههه..انزلق سوبرمان يومها على أرض ماطرة وأضحك عليه العالم…هل تصدقين أنني كنت أحسب نفسي فعلا سوبرمان؟ كنت صادقا رغم كل ذلك.. أقسم أنني كنت صادقا كحلم…لكنهم هزموني…لم أكن فاشلا..كنت بطلا انهزَمَ. أذكر أنّكِ تحسستِ أجنحتي المنكسرة وأنت تحضنينني وقد ابتسمتِ دامعة: “كسروا أجنحتَك يا سوبرمان…سيقتلونني”..

في الصباح الماطر للجنوب الماكر، لم يعد لك من أثر بيننا… كسرَ السيّاف نصله على جدار بيتكم، وأسكنتُ مرارة حياتي في غمدها…إلى الأبد.

بحثتُ عنك رغم ذلك كثيرا وأنا خجلٌ من نفسي…ومع الوقت، اكتشفتُ بأن سوبرمان المهزوم تحوّل إلى ديوجين الكلبي الذي يطرح كثيرا من الأسئلة، ولا يحسن الإجابة عن أي سؤال.

أعلم بأنك عانيتِ كثيرا وأنت بأرض الشمال الجميلة، محاطةً بالأشجار العملاقة التي تخطّت طاقة البشر في صبر ألوانها. قيل لي بأن الله يسكن روح تلك الأشجار..ما أسعدك وأنت تجاورين تلك الألوان ..أقصد تلك الأشجار..أقصد ذلك الله ! ما أجل اللّهكُم !

الله هنا، في الجنوب، يشبه الغربان التي تحاصرني…

في الأخير، كلٌ سيشبه إلهه !

***

مازلتُ بعد كافرا…يساريا..شيوعيا…

هههه..وجدتِني أضحك وأنا اقرُّ بهذا : كيف يكون عليه هذا الإله اليساري الكافر الشيوعي؟

حتما، مازلتِ بعد مؤمنةً بألوان الأشجار المستحيلة. وأنا أُكْبِرُ فيكِ هذه العزيمةَ الجبارة التي أوصلَتْكِ إليها..أقصد إلى تلك الأشجار !.. أذكر أننا كنا أجمل زوجين في هذا الكون، جمعا بين الكفر والإيمان…وها كافأنا الزمن بأن أعاد كلينا إلى أصله : متضادّان لا يجتمعان.

فلماذا أكاتبكِ الآن؟

هل سيكون بمقدوري أن أجيب عن سؤال واحد في حياتي، قبل انقضائها؟..سأحاول :

” أكاتبكِ لكي أخبرك بأنني كنت جبانا بما يكفي، لكي أسمح للأشرار بأن يأخذوكِ عني، وأن أخسر عمري من بعدك، وأضحّي بك، وأتحوّل مع الزمن إلى غراب. لا أطلبُ منك طبعا، أن تحبّينني، فالأمر تجاوز احتمالَ الجسدِ وصلابة القلب، لكنني سأكون سعيدا، لو تتكرمين بالإجابة عن السؤال الذي لطالما عجزتُ عن التقدم به إليك حينها: هل كنتُ مملا حقَّا وأنا أكتب لك تلك العشرات من الرسائل؟…

***

    أصغرُ بناتي تنتظرني لكي أقرأ عليها قصة قبل نومها…سأحكِي لها عنّا، ولن يكون هناك كتابٌ، لأنني أحفظ عن ظهر قلب ابتسامتك وروح المغفرة التي تملأ أيمانك…فقد يكون وسط الغربان السّود، غرابا أيضا قد يغيّر قاعدة الزمن…من يدري؟ قد يحن مطر الشمال الجميل إلى وجه الجنوب الشاحب..من يدري ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى