رحيل (قصة قصيرة)
فائزة سلطان | أمريكا
حقيبةٌ سوداءٌ صغيرةٌ ترتعشُ بين يديّ، اردتُ أن اجمع فيها خمسة وعشرون عاماً من حياتي، كانت غرفتي الباردة تنظرُ إليّ بشغف طفلٍ ينظرُ إلى عروس وأنا أحاول أن أدسّ في حقيبتي كلّ ما احتاجه في رحلتي إلى المجهول. الكتب الكثيرة على رفوفي القديمة كانت تتنهد كلما كنتُ أمسكُ بها أقلّبها وأحاولُ أن أختارها كي تكون رفيقتي في الرحلة ثم أضعها في مكانها بعناية. كانت الكتب الحكيمة ترتجفُ في يديّ، فهي لا تحب الرحيل كما الأشجار.
الرسائل اليتيمة المكدّسة داخل حقيبةٍ زرقاء تحت سريري وهي غارقة في تراب الانتظار والخذلان، الصور الميتة التي لا روح لها. صورٌ احتفظتُ بها لنفسي كعزاء للوحدة التي كادت أن تقتلني.
أختي السمراء تلك الوحيدة التي كانت تسمعُ نشيجي في الليالي الباردة تحت غطائي، تفادت النظر إليّ. فنظرة الوداع مقترنة بانتزاع روحي من روحها الرقيقة.
كنّا روحين مجروحتين مغزولتين بعناية في بيتٍ واحد. أرادت منيّ الرحيل بهدوء كي لا أوقظ العصافير الكثيرة التي كانت تختبئ في عينيها .
كانت تريد أن تحتفظ بعصافيرها الكثيرة التي اعتنت بها كل هذه السنين. لم ترغب برحيلي ورحيل عصافيرها معي.
تركتها في غرفتنا تشغل نفسها بتصحيح أوراق طلابها وفي الحقيقة كانت تحاول تصحيح حياتها أو رسم حياةٍ أخرى بعد تركي لها.
اخترتُ كتاب “روائع طاغور” من مكتبتي و نزعتُ قلبي الجريح ووضعته بين طيات الكتاب بغلافه السميك ذو اللون الرصاصي، كنتُ قد اخترت هذا الكتاب بالذات كي يحفظ قلبي طازجاً بين يديّ الشعر وتحفظه صلوات الشاعر من صدمات الطرق الكثيرة التي أجهلها.
أخذتُ نسخةً من كتاب الله الكريم، كنتُ أأملُ أن ينوّر الهوة السحيقة المظلمة في داخلي بعد أن نزعتُ كلّ قدري في رحلتي المجهولة وتركته تحت وسادتي القديمة. تلك الوسادة التي كانت من ريش الطيور الميتة التي كانت تحلق معي كلّ ليلةٍ في أحلامي.
أميّ وبقلبها المفرط بالحب وعشقها لأسمي وصوتي ووجهي وحتى جنوني، وقفت أمامي واجمةً وبصوتٍ مبحوحٍ فيه عتب قالت:
– لا تتركيني.
انفطّر قلبي، كدتُ افقدُ توازني اردتُ أن أرتمي بين قدميها اقبّلهما واقول لها أنا مضطّرة، ولكني استرجعتُ قوايّ وتنفستُ بعمقٍ وبألم.
أردتُ أن اكون قاسية في لحظة مصيرية ليّ، قاسية أمام هذا السيل الجارف من المشاعر قاسية حد اللعنة. قلتُ لها:
– وهل تريدين أن أموت أو أصاب بالجنون أمامك؟
لم ترد عليّ بل أن دموعها التي تعرف جيداً معنى كلامي، نزلت بكبرياء وبللّت روحي. وكأن العالم حولها انهار ببطئ، وكأن الجدارن بدأت بالذوبان، وبنيت جدرانُ أخرى بيني وبينها، وكأنها لم تنجب طفلة سوايّ وهي التي أنجبت اثني عشر طفلاً وطفلة، فقدت رضيعتين قبلي وكادت أن تفقدني ايضاً. كانت كلما تنظرُ إليً تقول:
– أنتِ لست طفلة واحدة أنتِ ثلاثة أطفال، اختاك نازنين ونهاية تعيشان فيكِ. جميع أطفالي في جهة وأنت الوحيدة في جهة أخرى. أنتِ فزتي على الموت ولهذا اسميتكِ فائزة.
هذه الفكرة ظلّت تعيش في داخلي منذ الطفولة كانت مُربكة وكانت ثقيلة مثل عبء كبير أحمله معي كلما أتذكر أمي.
وربما هذا هو سبب تحولي من امرأة إلى أخرى دون وعي. ولهذا يسكنُ الأموات في داخلي. نازنين ونهاية الطفلتان اللتان تعيشان في داخلي كبرتا معي.
كنتُ مثل طيرٍ جريحٍ لا أقوى على الطيران أهربُ من قصة حبٍ فاشلةٍ أعدمها السياسيون أمامي ومن وعودٍ مزيفة كانت تشلّني، تُربكني تجعل من شبابي وقوداً للحرب وللانتظار أو لجنونٍ حقيقي يختلف عن جنوني هذا.
كنّا نعيشُ في حصارٍ اقتصاديٍ مرير، وكان الأطفال في المشفى يموتون أمامي من الجوع والمرض وكنتُ أدفنهم في داخلي بحنان أمٍ لم تنجب بعد، وفي الليل يخرجون من قلبي العبُ معهم واقهقه فتنهض أختي من نومها وتبحث عنهم تحت سريري فلا تجدهم.
أبي كان جالساً مثل عصفورٍ حزينٍ ينتظرني في عشّه، اقتربتُ منه وجلستُ أمامه على الأرض قبّلت يديّه اودّعه، نظر إليّ نظرة طفلٍ عجوزٍ، يا الهي كم أذتني هذه النظرة. قال لي:
***
لم يقل ليّ شيئاً ولكنه قال كلّ شئ.
سحبتُ حقيبتي ورائي كانت ثقيلةٌ جداً، هذه السنين التي قضيتها في بيتنا الجميل كانت معبئة بالذكريات، كانت ثقيلةٌ جداً ولكني سحبتها رغماً عني.
عند عتبة الباب وأنا اضعُ حقيبتي الثقيلة في السيارة، وقف أبي أمامي حائراً، رأيت دمعةً ثمينةً تنزل على خدّه، ركضتُ إليه قبّلت يديًه أما أمي فكانت تجهش ببكاءٍ يشبه عويل النساء الكرديات الحزينات على فراق احبتهنّ. كان مشهداً مخيفاً لفتاةٍ لا تعرف الكثير عن الحياة. حضنتها وقلتُ لها:
– سأرجعُ يوماً سامحيني.
ركضتُ إلى السيارة التي تقلّني، ألعنُ كل رصاصةٍ كانت تبحثُ عنيّ، العنُ كلّ جنرالات الحرب بخدودهم الوردية وكروشهم المتعفنة، العنُ كلّ صفقةٍ خائنةٍ بيد المرتزقة ترغمني على ترك نجمتين ورائي يتهاوان ويرتطمان في ساحة روحي.
في طريقي نحو المجهول أورّقت ليّ جناحان أخضران يشبهان قلبي.
2/18/2015