أنا… وطيّارتي

عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين

 

عندما بعت سيارتي، أقصد سيارة العائلة، وتربّطنا، وتجمّدت مشاريعنا، وأصبحنا ندور في حلقة… وحلقة أكبر وهكذا… نعم، عندما بعناها وغابت عن قاع دارنا وعن ناظرينا… والله تألمت، لقد كانت واحدة منا، ألفناها… وتعودنا مشاويرها… وزامورها… و.. و… فعلا ًزعلنا على فراقها… وشعرنا بفقدان عزيزة… كانت أكثر من وسيلة نقل… فقد كانت جغرافيا سرعان ما تتحول إلى جغرافيا أخرى… وكانت الجمال والرحلة والطلعة الحلوة… باختصار نمت وأنا زعلان…

رأيت بساطاً أخضر، في وسطه نهر، وبجانبه شارع أسود مشيت فيه فلم أعثر على مطبٍّ واحد… ولا حفرةٍ واحدة… قلت هذه البلاد لا أعرفها… وفجأة كنت قرب الطيارة… ما أجملها، قالوا لي اركب… قلت: ما هذا؟ وكيف أركب، وهي أعلى من جحش سيدي القبرصي الله يرحمه، قالوا معك حق… وضعوا سلماً من الأرض إلى باب الطيارة… صعدت، وعلى آخر درجة، يعني على عتبة الطيارة حييتهم… وأرسلت لهم قبلات في الهواء، ولا أدري أوصلتهم أم لا؟…

لا أحد غيري في الطيارة… أمامي شاشة كبيرة… وتحتها مفاتيح… وشباك نصف دائري كبير… جلست… تأملت… لا أدري ماذا أعمل؟ انقهر أحد الأزرار مني ومن بلاهتي، فاحمرّ وانتفض، وصاح اكبس وشغل… اكبس… ولِمَ لا أكبس وأشغل، تذكرت وأنا أشغل السيارة المباعة كي تحمى قبل السفر… كبست الزرّ فانطفى… وبدأت المحركات تعمل، ومروحيات صغيرة تعمل، ثم الكبيرة… وتصاعد صوت الطيارة تدريجياً، وفعط زر آخر يقول: تحرك… كبست عليه، وقلت كما قال السكاكيني لطيارته: يا طيارة طيري… فطارت… وعلت وطارت… في البداية كنت خائفا ًمن السقوط من علُ، أو الاختناق، أو الاحتراق… وكبست زراً آخر، فاستقام مشيها أو طيرانها… ياه… ما أجملها من رحلة طيرانية…! بلا تذكرة، ولا جواز سفر، ولا تفتيش أمتعة، ولا كلاب مطارات… قلت في نفسي: مليح اللي بعت السيارة، الحمد لله الذي بدّل  الطيارة بالسيارة، شدني المنظر تحتي: آلاف الأغنام السمار والبياض… بلا راعِ، كلها تأكل ما قسم الله لها، وفي أسفل منها جزيرة فيها ماء وحولها سفن الصحراء، تستريح على الميناء… ضربت زرّ الكاميرا فصوّر المكان والحيوان… على مسافة أخرى، كانوا يدبكون، ويرقصون، الله يهدّي بالهم، لكن والله خفت منهم، كانوا يطلقون شراراً في الفضا، فخفت من الاحتراق والسقوط… أسرعت وأبعدت عنهم… نطز زرّ كُتِبَ عليه المأكولات: وسأل: أما جعت؟ قلت: بلى، ورب الكعبة… كبست على زرّ أصغر منه، ففُتِحت طاولتان حولي، طاولة من كل جانب، وبدأت الصحون تتوالى وتترتّب عليها… بندورة مقلية… زيتون… مكدوس… مثوم… جبنة…  بيض، وعلى الطاولة الأخرى: خبز… وملاتيت… وبسيسة… و…و… لعين ذاك الزرّ وكأنه فهم علي، فنرفز، وصاح: متى تنتهي بلاهتك؟اكبس الزر الأيسر… كبسته، فانظبّ الأكل عن الطاولتين…  وخرجت طاولتان غيرهما… هذا الأكل والا بلاش… شيء مشهٍّ والله… ما أجمل الجبال قائمة، والطير صافّات، والتلال راكعة، والسهول ساجدة… لأمر الله… وطيارتي تطير، وأنا أقول في نفسي: مليح اللي بعنا لعينة هالحرسي… وين الدنيا وأهلها… وفجأة: كانوا تحتي، يتقاتلون… طوشة كبيرة… يضربون وكأني أسمعهم يتصايحون، وأرى الدماء تسيل من الرؤوس والأطراف، ونساء كأنها تشتم وتعاير ، وتجلب الحجارة بالقفاف… احمر ّزر،ّ وقال: انزل افزع، وأسهم في الصلح… كبست عليه، نزلت طيارتي في واد غير ذي زرع… نزلت بسرعة بين الناس، أهدي النفوس وأحجز بينهم… وأخذت نصيبي مطراقين على ظهري… ولما انفضّ الجمع بين منتصر ومهزوم… انتفضت، وأسرعت إلى طائرتي كي أهرب بغنيمة مطراقين… يا جماعة الله سترني اللي ما وقعت عن التخت… وتختي فيه من العلوّ ما فيه، كان انكسرت رقبتي… بسملت وحوقلت… شربت قليلاً من الماء وأنا أرتجف… هدأت: ووجدت نفسي بلا سيارة… وبلا طيارة… وأحداث وأحداث تمر بشكل مرعب في شريط أمامي… قلت في نفسي: إنها خطيّة سيارتي… إنها لعنة التفريط في جزء منك… من مقتنياتك… والآن أنا أبحث عن طائرة… فإن لم يكن فسيارة، وإلا فتُْكْ تُكْ… أجوب به الحواري والأزقّة…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى