قصة حياتي

أ. د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري

 

ولدت طفلة طبيعية، ولما صار لها من العمر سنة ونصف كانت تسمع وتبصر وتوشك على الكلام، وفجأة أصابها مرض صارت على أثره صماء وبكماء وعمياء، جُرّدت من الحواس الإنسانية الأساسية. مرت سنوات أضحت فيها صعبة المراس؛ تحطم كل شيء لا يروق لها، تحشر الطعام في فمها بيديها كلتيهما، وإذا حاول أحد منعها انطرحت أرضاً تصرخ ولكن دون جدوى. وبدافع من اليأس المفجع؛ أرسلتها أسرتها إلى معهد للمعاقين بصرياً بمدينة بوسطن الأمريكية، لتدخل المعلمة “آن سوليفان” حياتها، فتتحول تحولاً مغايراً تماماً لما كانت عليه، في عمل خارق ومعجز على يد هذه المعلمة، وكما كتبت هي نفسها في كتابها “قصة حياتي” أن سعادتها كانت غامرة حين اكتشفت أن هناك لغة إنسانية يمكنها أن تتفاهم بها مع الناس، فبدأت تحب الحياة، وعندما بلغت العشرين من عمرها استعادت ملكة الكلام، وكتبت المقالات والكتب بحروف “برايل”.

ومع قناعة الناس أن أشد كارثة تصيب الإنسان هي ابتلاؤه بالعمى؛ إلا أن “هيلين كيلر” كان لها رأي آخر؛ فقد أشارت في مذكراتها أن الصمم أفدح بكثير من العمى، ففي ساعات الظلام الحالك والصمت البالغ اللذين يفصلانها عن العالم ويجعلانها بمعزل عنه، لا تتوق إلى شيء قدر اشتياقها إلى سماع همسة بشرية تنبعث من فم إنسان، فالأصوات في اعتقادها أهم كثيراً من الأشكال والألوان.

أثبتت “هيلين كيلر” رغم إعاقتها المعقدة أنها أنفع للإنسانية من كثير من البشر؛ فقد كانت عمياء تماماً ولكنها قرأت أضعاف ما يقرأ المبصرون، وكتبت سبعة كتب، وفيلماً سينمائياً عن حياتها، ومثّلت فيه. وكانت صماء تماماً، ومع ذلك كانت تستمع إلى الموسيقى بما يفوق حظ الكثيرين من ذوي الآذان السليمة. كما أنها قد سلخت من عمرها سنوات وهي بكماء لا تنطق حرفاً واحداً؛ إلا أنها طافت العالم تلقي محاضراتها التي جذبت إليها أسماع الناس.

إن التراث الإنساني يزخر بالنماذج المضيئة والسّيَر التي تعبر الأجيال حاملة أنباء الذين خلوا من قبل تاركين آثار خطاهم ومساعيهم في دنيا الناس مضيئين ليل الحياة بنور إيمانهم وأعمالهم. وإن سِيراً كسيرة “هيلين كيلر” تُعد إضافة راسخة لوجدان الإنسان وفكره ووعيه، فهي وأمثالها ممن يُطلُّون على عصورهم وعصور تاليات بتجاربهم الرائدة ينسجون ذاكرة التاريخ، والتاريخ بارع في التفريق بين الأعمال الزائفة والأعمال الأصيلة؛ براعة من يكشف الزائف من العُملة، والتي وإن مُزجت مع أخرى صحيحة، لا تلبث أن ينصلّ بهاؤها، وتنهار سوقها، وتُولي الأدبار. إن ذاكرة التاريخ تبصر من أحيا قلب الحياة، وتعشى عمن عاش على هامشها.

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. قصة مثيرة لشخصية مهمة. وأصحاب الهمم نماذج للجميع للعمل والإنجاز. شكرا للدكتور محمد

  2. قصة هيلين كيلر يحتاجها كل الشباب ليروا عزيمة البشر وقدرتهم على التغلب على الإعاقات مهما كانت شديدة. تقديرنا لعالم الثقافة والكاتب الدكتور محمد سعيد

  3. الاستاذ الدكتور محمد سعيد حسب النبي ذاك الاكاديمي الورع والمبدع في كتاباته يستذكر لنا قصة حياة “هيلين كيلر” ليس فقط ما يملأ به ايجابيات افكاره المتوالية بسطور قليل ولكن ليبرهن لنا ان التاريخ دائما يحفر اسماء الخالدين بحروف من نور لما قدموه للانسانية، وانا من متابعي كتابات الدكتور الفاصل الذي تميز باختيار متابعيه بدقة اختياره مواضيعه بأسلوب ادبي رائع لا يخلو من جمالية الادب العربي

  4. دكتورنا الفاضل… كم يتوق ناظري لقراءة ما تصوغه أناملك… استفدنا وتعلمنا منك حاضرا بين أوساط بلدك الثاني الإمارات العربية المتحدة وها أنت حتى في غيابك عنا ، تسطر لنفسك مزيدا من الإبداع بكتاباتك نغوص في أعماقها.
    ولما تفضلت في موضوعك وطرقت لنا بهذا الأنموذج البشري الرائع ” هيلين كيلر ” والتي تناولت حياتها بروح الشغف والإيجابية تلك الإيجابية التي تدرس اليوم في أروقة الميدان التربوي لشحذ همم الكبير قبل الصغير .
    تلميذك المخلص
    أ.عبداللطيف عبدالله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى