بيت الرقيمي بمكة

د. علي زين العابدين الحسيني|أديب وكاتب أزهري

يا صديقي .. دعني أكتب لك عن رجل زاهد من علماء “مكة” الصلحاء الأنقياء!
قضيت موهناً من الليل في النظر لصورة نشرها سيدي محمد علي يماني على صفحته في “الفيس بوك”، وهي لمولانا الأجل سيدي العلامة عبد العزيز الشهاوي – فقيه مصر وشيخ الشافعية – في زيارة لبيت شيخنا الفقيه العابد الزاهد المرحوم أحمد بن عبد الله الرقيمي بمكة المكرمة، وإذا حضر الشهاوي أو تكلم في مجلسٍ أصغى إليه جالسوه، وتحلق حوله محبوه؛ لأنّ له في تلك المجالس هيبة وإشارة وفائدة واتصالاً!
أبداً لا أنسى تلك الكلمة التي كان يرددها أستاذي الفقيه أحمد الرقيمي كثيرًا بعد كلِّ درس: “اللهم لا تـقطعنا عن العلم بقاطعٍ”، فاستجاب الله دعاءه، وتفرَّغ للتدريس، واستمرَّ على ذلك إلى آخر عمره، فكانت الطلبة تأتيه أفواجًا في بيته، ودروسه للكبار والصغار على حــدٍّ سواء، رغم كثرة أمراضه، وعدم تـحـرُّك بعض أعضائه.
إن النفوس الكبيرة لا تتحملها أجسادها، ولا تقوى على حبسها أمراضها، ولا يثنيها عن غايتها عجزها!
هكذا كان سيدنا الرقيمي، فرغم عجز جسده إلا أن نفسه الفتية لا تفتر عن القيام بواجب العلم، حتى بلغتْ به على عجزه ذرى العلياء، فتلقى عنه أناس كثيرون مذهب الإمام محمد بن إدريس الشافعي وهو على هذه الحال.
كان شيخنا المرحوم مجمعًا للفضائل، صوفيًّا نقيًّا، متواضعًا كثير التفكُّر، سليم الصدر، طيِّب الُخلق، كثير الذكر، تاليًا للقرآن، جمّ الأدب، حليمًا ليِّــنــًا، رحيمـًا بالغرباء، شديد العطف عليهم، يقضي لهم الحوائج، ويسعى في إرشادهم وتعليمهم، مستقيمـًا على الطاعة.
برع وتخصص في الفقه الشافعي بحسب وقـتـه ومصره، وعُـرِفَ بقوة استحضار الفروع الفقهية، وشارك أيضًا بقوةٍ وإدراكٍ تامٍ في بقية الفنون، وله تنبيهاتٌ على الكتب الفقهية عزيزة، وإدراكاتٌ لطيفة، ينشرها أثناء القراءة عليه في كتب الفقه، يتبادر إلى ذهن الطالب منها فطنـته، ونبوغه، وإدراكه للغوامض، زيادة على ما يظهر منه من تصحيح للمتون الفقهية أثناء القراءة تدلُّ على استظهاره ومعرفة خباياها.
كنتُ غالباً أثناء تواجدي بمكة ما أقضي أصائل الأيام في حضرته، فكان مجلسه عامراً بالعلم والقراءة عليه، ولمولانا السيد حنو وعطف عليّ خاصة، منشؤه فيما أظن ميله إلى الأزهر ومنهجه، وحبه للغريب، وأنسه بالبسطاء، فهو يحبّ في كل زيارة أن يناقلني الحديث، ويتحدث معي عن مشايخه ومجالسهم في مكة وغيرها، وأنا بطبيعتي تستهويني مثل هذه الأحاديث، فكنت أقيد ما يحكيه أو يرويه لي في دفترٍ خاص.
يختلف السيد أحمد الرقيمي عن غيره من العلماء في دروسه، فما كان درسه جافــًّا؛ بل كان يشعُّ النور منه، كما تشع الأنوار والبركات في بيته، وكان يوجِّـه طلابه إلى الصلاة في الحرم والمتابعة بين الحج والعمرة، فانتفع به الكثير من الطلبة، وصاروا بعد ذلك يـُدرِّسُون ما أخـذوه عنه، ويـُــقتدى بهم في البلدان.
ومن المقرر في الأذهان أن الشبل سينتهي بالضرورة إلى طبيعة الأسد، فكذلك ورث أولاده الكرام منهج أبيهم في الكرم والاحتفاء بالضيوف والزائرين.
لا أزال أذكر أنّه حدث أولاده ذات مساء أمامي ألا يمنعوا أحداً من الدخول عليه ليلاً أو نهاراً رغم كثرة أمراضه وتعاقبها، ولم أجد طيلة تردُّدي عليه لسنوات إلا الحفاوة من أولاده السَّادة البررة.
هل لبيان المحبة ترجمان يُعينني؟
هل لفقدان الصالحين ومجالسهم من بديل؟
هل للبكاء مِن تذكر الذكريات الجميلة ألحان؟
حقاً .. إن القدرة على بث ما في القلب من محبة واشتياق أمرٌ محدودٌ!
لقد حاولتُ!
للذين ذكّرونا بتلك المجالس العزيزة، وللأبناء الذين انتهجوا نهج أبيهم الصحة والعافية والسلامة والبقاء والتقدير والإجلال!
ولسيدي محمد علي يماني خاصة أقول:
لا يسع مَن يلقاك إلا أن يجلك، ولا يملك من يعرفك إلا أن يحبك.
أسأل الله أن يبقيك في كنف رعايته وفضله!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى