تأملات في النهضة الأوروبية والتحولات الفارقة في التاريخ الإنساني

د. أحمد نسيم برقاوي | فلسطين

      تشكل المسارات التاريخية الكبرى اتجاهات، لا يمكن لقوة ما؛ مهما تعاظمت، أن تدعي مقدرة تشكيلها، وهكذا، هو عصر النهضة الأوروبية، الذي ساد باعتباره، تحولاً غير قابل للتجاوز، ولم تكن ظلاميات العصور الوسطى، قادرة على  إطفاء وهج النور القادم من مختلف مشاعل التنوير.

       ليس أشق على الكاتب من الكتابة عن موضوعات قُتلت بحثاً؛ لأن تناول هذه الموضوعات، يوقع الباحث في التكرار، وكل تكرار ابتذال.

       ولهذا آثرنا أن يكون خطابنا خطاب تأمل في عالم مضى بالنسبة إلى أوروبا، وفي روح مأمولة بالنسبة إلى عالمنا العربي. فلقد آثر مؤرخو التاريخ العربي أن يطلقوا على الحركة التي شهدتها المنطقة العربية من منتصف القرن التاسع عشر وحتى مرحلة ما بين الحربين الكونيتين اسم النهضة العربية تشبهاً بالنهضة الأوروبية؛ لما بين روح النهضتين من تشابه من حيث التجديد الديني والفكري والسياسي؛ على ما بين النهضتين من اختلاف في الشروط والإبداع والمصير.

       النهضة من حيث التحقيب التاريخي الأوروبي، هي مرحلة انتقالية تبدأ من القرن الخامس عشر وحتى القرن السابع عشر. هذه المرحلة الانتقالية تعني في المستوى التاريخي – الاجتماعي السياسي، الانتقال من البنية الإقطاعية إلى البنية البرجوازية الرأسمالية، وعلى المستوى العلمي الانتقال من العلم الأرسطي إلى العلم التجريبي والرياضي، وفي النشاط الإنساني بروز مغامرة الاكتشاف الجغرافي، والمستوى اللاهوتي أنسنة الكنيسة لتغدو أقرب إلى الإنسان، وفي المستوى الفني إبراز الرسم والنحت للجسد الإنساني والطبيعة الخلاقة، وفي المستوى الأدبي ظهور الثورة الشعرية على يد بترارك ودانتي، وفي المستوى الفكري انتشار النزعة العقلية التي ستمهد لعصر التنوير.

     إن النهضة الأوروبية هي الأساس، الذي بُني عليه انتصار مركزية العقل، وبالتالي مركزية الإنسان؛ بل إن أنسنة الدين – الإله، قادت إلى النزعة الإنسانية ومركزية عقل الإنسان

السؤال الرئيس الذي أطرحه هو كيف تعينت مركزية العقل؛ بوصفها تعبيراً عن مركزية الإنسان ؟

تحولات النخبة.

       لقد تحولت النخبة وبخاصة في أوربا؛ لتصبح هي الصانعة؛ لتعينات العقل في كل صعده؛ بل باستطاعتي القول إن الحرب البروتستانتية -الكاثوليكية، التي عُرفت بحرب الثلاثين عاماً، كانت مخاضاً عنيفاً لانتصار النهضة الأوربية.

       لقد تعين العقل النهضوي أول ما تعين في الفن التشكيلي، أي الرسم والنحت. ولقد صار الجسد في فن الرسم والنحت النهضوي موضوعاً مركزياً، فالجسد هو الإنسان، وهذا يناقض مفهوم الجسد المرذول الخاطئ في اللاهوت المسيحي. ولهذا فلقد استقى فنان عصر النهضة من الفن اليوناني والروماني الإعلاء من شأن الجسد.

       فلو أخذنا لوحة “مولد فينوس” للفنان الإيطالي ساندرو بويتتشيلي، نجدها تصور أسطورة فينوس اليونانية، التي انبثقت من البحر، فآلهة الحب هذه تقف عارية بكل مفاتن جسدها، الذي تحرر من فكرة الخطيئة، التي جعلت منها المسيحية أساساً لفكرة الخلاص. ودافنشي هو الآخر الذي راح في الجوكندا، يُبرز كل الأبعاد الإنسانية في الوجه البشري، حيث البسمة والحزن والبهاء والشرود، بل إن رسم عالم الفلسفة كان ظاهرة غير مألوفة، غير أن انتصار العقل جعلها كذلك، فلقد قام  جيورجيوني عام 1509م، بناءً على طلب أحد تجار مدينة البندقية؛ برسم لوحة “الفلاسفة الثلاث”. حيث ثلاثة رجال في الطبيعة، يمثلون الحضارة اليونانية والحضارة العربية وعصر النهضة. ومهما اختُلف في معاني اللوحة فإن فيها روحاً تنويرية، حسبها أنها تضم الفيلسوف العربي ابن رشد.

       أما لوحة رافائيل “مدرسة أثينا”، فهي لوحة التمرد الفني على الكنيسة بامتياز. ومع ذلك لا أدري لماذا سُميت اللوحة باسم مدرسة أثينا، فهي تضم هيباتيا الإسكندرانية، وأفلوطين الإسكندراني، وابن رشد العربي الأندلسي، وزرادشت الفارسي. إن وجود هيباتيا الفيلسوفة الرياضية، التي قتلت على يد الرعاع المسيحين في ذلك الزمان، دليل على وعي رفائيل التنويري في تلك المرحلة. ومن المعروف عن هذه الفيلسوفة الأفلاطونية المحدثة؛ بأنها كانت أميل إلى الإلحاد، ورفضت الاعتراف بطبيعة المسيح اللاهوتية. غير أن مقتلها، راح يحيل إلى رمزية عالية للإرهاب الديني آنذاك. فأن تحضر هيباتيا في لوحة تجمع ثلاثة رموز من الفلاسفة، فهذا يعني تحرر من سلطة الكنيسة أولاً، واعتراف بالحرية والحق ثانياً.

حضور دال

       وقس على ذلك حضور ابن رشد في اللوحة ذاتها، فإن حضوره في اللوحة، لهو استعادة للرشدية اللاتينية، استعادة ابن رشد الذي حرم البابا في القرن الثالث عشر كتبه والاطلاع عليها. فابن رشد الذي تحدث عن الحقيقتين العقلية والنقلية، وأكد قدم العالم وأنكر خلود النفس، وأسس لتمرد الروح الفلسفي الأوربي.. ابن رشد هذا يحتفل به رافائيل؛ من بين من يحتفل بهم في “لوحة الفلاسفة”.وهناك شخصيتان مهمتان تبرزان وعي النهضة العقلي، شخصية توماس مور وشخصية أيراسمس.

       توماس مور المتدين، وصديق أيراسمس، راح يفكر بنزعة إنسانية على درجة عالية من التناقض مع واقع الحال. فألف “الأوتوبيا” المدينة الفاضلة وتصورها، مدينة خالية من التفاوت الطبقي، وخالية من العنف، والمواطنون الأحرار؛ أحرار في أغلب نشاطات الحياة. إن هذا النهضوي الكبير الذي قتل بقطع الرأس، قد أصبح ملهماً للاحقين من دعاة المساواة.

والحق بأن كل نزعة طوباوية؛ ما هي إلا حالة من التمرد على الواقع، ورفض الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، ومحاولة لرسم المستقبل المأمول؛ حتى ولو كان بعيد التحقق أو مستحيلاً.

       أما الشخصية الأبرز، والتي أظن بأنها تكثف عقل النهضة الأوربية الإنسانية، فهي شخصية إيراسموس الصديق الحميم لمور. فهو يتمتع بعقل نقدي في قراءة المسيحية؛ بل دعا لحرية قراءة الكتاب المقدس.

كانت المشكلة التي واجهت ايراسموس هي كيفية التوفيق بين الفكر اليوناني والروماني والفكر المسيحي؛ بل رأى أن المرء قد يعثر في الفكر اليوناني على روح المسيحية.

معركة نقدية.

       لم تكن الكنيسة آنذاك قادرة على الموافقة على هذا “التجديف”، فخاض معركة نقدية مزدوجة: فهو من جهة مناهض لحال الكنيسة في عصره، ومناهضاً للإصلاح الديني اللوثري. مؤكداً ما جاء به المعتزلة (دون أن يطلع على إرثهم الفكري)، بأن الإنسان في النهاية مسؤول عن أعماله.

       ومن أطرف الكتب التي ألفها إيراسموس كتاب “مديح الحماقة” الذي ترجم إلى العربية. والحماقة هي جملة القيم السلبية التي وقف في مناهضتها، التي كانت سائدة في عصره؛ كالجشع والأنانية والغرور والحسد وحب الثروة.

والحق إن النزعة الإنسانية لدى مور وإيراسموس أسستا للانتقال من نزعة إنسانية مركزها الإنسان إلى المرحلة التنويرية العقلية.

       أما في مجال الأدب فإن أهم رمزين في نهضتهما هما دانتي وبترارك.

هل الكوميديا الإلهية لدانتي نص أدبي أم نص فلسفي؟ إن الجواب عن هذا السؤال لا يكون بإما هذا أو ذاك، فلقد صب دانتي وعيه في العالم في هذا القالب الأدبي المتخيل على غرار “رسالة الغفران للمعري. فالجحيم والمطهر والفردوس، هي درجات السيرة الأخلاقية للكائن. ما يعني أن الكوميديا بهذا المعنى هي كتاب في الأخلاق وفي القيم، كما يجب أن تكون.

  حين نتناول الأفق المجازي، لقد سعى دانتي لتحرير الإنسان من الوحوش التي تعيش داخله. وهي في الكوميديا: النمر رمز حب الثراء، الأسد.. القوة والغرور، والذئب رمز البخل. إن الجحيم هو مكان هذه الوحوش الساكنة نفس الإنسان، مكان الخطيئة والخاطئين، ومكان العذاب والعقاب، فيما المطهر هو الدرب الذي يسير عليه الإنسان إلى الإيمان الديني، والفردوس هو درجة الوصول إلى علاقة الحب مع الإله، الذي هو عند دانتي إله أرسطي ومحرك لا يتحرك.

       هذا الحب الإلهي الصوفي يحرر الإله من الاختلاف حوله، ويصبح واحداً لجميع البشر؛ بمعزل عن انتماءاتهم الدينية

       إن ما هو هام في “الكوميديا الإلهية”، هو، أولئك الذين يقيمون في الجحيم، والذين عبرهم نعرف دانتي النقيض لهم، ونتعرف على وعي دانتي بالعالم الذي يرفضه، وبالتالي على العالم الذي يقبله.

طبقات الجحيم

       في الطبقة الأولى من الجحيم يقبع الأقل ذنباً، كالمسيحي غير المعمد، والوثني الأخلاقي، وهوميروس، وأوفيد، وصلاح الدين الأيوبي، وجميع الفلاسفة من سقراط إلى ابن رشد. وفي الطبقة الثانية يقبع الشهوانيون أمثال سميراميس وكيلوبترا وديدرو. وفي الطبقة الثالثة يعاقب أصحاب الفجع أو الجشع. وفي الرابع المغتربون بحب المادة. وفي الخامسة النفوس الغضبية. وفي السادسة الهراطقة كالأبيقوريين. وفي السابعة أصحاب السلوك العنفي. وفي الثامنة الغشاشون؛ كالغاويين والمتملقين والمرتشين والسحرة والمنجمون والمنافقين والسارقين والمسؤولين الفاسدين والمفسدين. أما في الدائرة الأخيرة فيقيم الخونة. وأخيرا، في وسط الجحيم، يقيم الشيطان وأصحاب الخطيئة.

       هؤلاء الموجودون في الجحيم، هم الذين يجب أن تتحرر منهم البشرية، فوجودهم على الأرض هو الجحيم نفسه. وهنا تبرز النزعة الأخلاقية الإنسانية عند دانتي، التي تنتهي بعلاقة الحب الإلهي.

       أما بترارك، فلقد وصف بأنه صاحب النزعة الإنسانية العامة، لا بفضل قصائد الحب التي كتبها للورا، حبيبته التي ضربته ضربة الصاعقة المعروفة في عالم الحب، ولا باختراع السوناتا الشعرية فحسب؛ بل بفضل تلك النزعة الرومانسية الطبيعية أيضا، وبفضل التواصل مع الإبداع اليوناني وجمالياته، التي حاربتها القرون الوسطى.

       ولكن ما هو الدرس المستفاد من النهضة الأوربية، غير تلك النزعة الإنسانية والتقدم العلمي، والثورة على سلطة الكنيسة، وتحرير الله من التعصب البشري؟

الدرس المستفاد هو: إن النهضة الأوروبية في الجوهر هي مرحلة انتقالية في التاريخ؛ لما هو أرقى على مستوى الاقتصاد والمعرفة والقيم والإرادة الإنسانية، التي دشنتها البرجوازية الأوروبية؛ بانتصارها على سلطة الكنيسة انتصاراً نهائيا. فالنهضة بالأساس ليست فعلاً إرادياً، بل هي استجابة إرادة العقل لمنطق التاريخ نفسه.

وكما قال هيجل يوماً:إن بومة منيرفا لا تطير إلا عند الغسق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى