بيروت سيدة العواصم

سميح محسن | فلسطين 

لَيلٌ على شُرُفاتِ ذاكِرةٍ تَشيخُ

وتَنْحَني لِفضاءِ بحرٍ

غارقٍ في لُجّةِ النّسيانِ، 

نافِذَتي التي حررّتُها مِنْ ضوءِ قِنديلٍ عتيقٍ 

تَحْتَفي بفضائِها الفِضّي 

تأخُذُني إلى مدنٍ بعيدة…

لَمْ تَكُنْ بيروتُ أولَها

وخاتمةَ المدن…

بيروتُ أجملُها

وأقرَبُها إلى حَيْفَا

(وما أدراكَ ما حَيْفَا)  

فَحَيْفا أولُ الكلِماتِ

فاتِحةُ الصلاة….

⚝⚝⚝

 

بيروتُ تأسرني 

وتحملني على فَيضٍ من الأحلامِ

مُلْتَبِسٌ عليّ بريقُها…

بيروتُ تشبه في المساءِ

غزالةً هبطت من الأدغالِ

امرأةً تمارَت في مياهِ البحرِ 

واضطجعتْ على الشاطئ،

تراقبُ موجةً ركبت على أكتافِها شمسٌ،

مجاميعُ النوارس…   

 ⚝⚝⚝

 

بيروتُ تشبِهُني

وأشبَهُها بما حملتْ من الأثقالِ

في زمنٍ سريعِ الخطوِ والإيقاع،

بيروتُ فوضى من عجينِ الرّوحِ 

والتشكيلِ 

والأضداد، 

تعيدُ صياغةَ الأشياءِ 

تشكيلَ المعاني…

 ⚝⚝⚝

 

هلْ تُبهرُ الأضواءُ عينيّ الفتى

أم سوفَ تحملُهُ إلى الفوضى ؟!

على أكتافِ أرصفةِ الطريق مدى

كتبٌ معلقةٌ على حبلٍ مقوى،

ومثقفونَ توزعوا في غيهبِ اللهجات،

يجمعهم فضاءُ الأبجدية،

والباعةُ المتجولون

وبائعاتُ الوردِ في الأعيادِ نوّرنَ المساءَ

مقاتلون تقاسموا الطرقاتِ

أعلامٌ على الشرفاتِ

في الليلِ تنكفئُ المدينةُ بين فاصلتينِ 

وتحتمي بظلالها… 

 ⚝⚝⚝

 

في ساحةِ الشهداءِ

أبحثُ عن طريقٍ سوف توصلني إليّ، 

هذا ممرٌّ ضيِّقٌ يفضي إلى طرقٍ بلا أقفال،

سأفتحها،

وأغرقُ في تفاصيلِ المدينة،

بيروتُ تحملني على قمرين،

قمرٌ يضيء لي العتمات،

وآخرُ يحرسُ الخطواتِ

لا معنى لفهمِ مدينةٍ 

دونَ الدخولِ إلى أزقتِها العتيقة… 

 ⚝⚝⚝

 

كانَ الغريبُ عن المدينةِ تائهاً،

ومكبّلاً بوصيَّةِ الجدِّ الذي أفنى

سنيَّ العمر تحتَ عباءةِ الوعّاظ..

في شارعٍ خلفَ الجدارِ عباءةٌ أخرى

وألفُ حكايةٍ سوفَ تأخذني إلى زمني

تحرّرني من المألوفِ

فاعذرني على هذا التحوّل يا أبي…

بيروتُ تقرؤني المعرّي خارجَ التلقينِ 

تحملني على قمرين، 

تُشكِّلُني بمعجمعها،

وفوضاها

أكون…

 

 ⚝⚝⚝

 

للفاكهاني قصةٌ أخرى،

أحاولُ أن أعيدَ بناءَ هذا الحيّ في المخيال،

سيلٌ من القصص التي كُتبت عن الحيّ الذي اختزلَ المدينةَ

أمّهُ الشعراءُ، والثّوارُ، والتجّارُ، والفقراءُ، والطلابُ، والصحفيُّ، والرسّامُ،

يأتلفونَ،

يختلفونَ،

يحتكمونَ للبارودِ أحياناً،

ويجتمعونَ،

كأنّ شيئاً لم يكن…

كم أسهبَ الشعراءُ في وصفِ المقاهي،

وتغزلوا في البحر،

كأمرأةٍ نجت من غارةٍ لم تظفر مفاتِنَها القنابل،

صورٌ على الحيطانِ للشهداءِ من كلِّ العواصم،

نتوءاتُ الرّصاصِ،

دمٌ، وأشلاءٌ مقطعةٌ، موزعةٌ على الطرقاتِ،

خاتمةٌ، بدايتُها رحيلٌ في متاهاتٍ وليدة،

مدنٌ تنامُ على الرّمالِ، 

وتنشي بالقهرِ،

تحرسها القبيلة،

مدنٌ تُشِّع بضوئها

بيروتُ سيّدةُ العواصم…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى