من إشكاليات الترجمة الدينية.. الترجمة والعقيدة عند السنة (15)
أ.د. عنتر صلحي | أستاذ الترجمة واللغويات – جامعة جنوب الوادي – مصر
ذكرت منذ فترة حكايتي مع ترجمة (فإن مع العسر يسرا)، وبينا فيها ضرورة إحاطة المترجم بمعاني الألفاظ ومعاني تراكيب الألفاظ lexical-grammar, grammatical lexis.
واليوم استوقفتني الآية العاشرة في سورة فاطر ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾.. فالآية من الآيات المرتبطة بالأسماء والصفات في علم العقيدة. وعند أهل السنة والجماعة، معنى الآية أن الكلم الطيب (وهو مثل قول لا إله إلا الله) يصعد إلى الله، وأن صعوده مشروط بالعمل الصالح، أي أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب…. ومن الآية عدة استنباطات. أولها ضرورة موافقة القول العمل، فلا قيمة للكلم الطيب بدون العمل الصالح، لكن الأهم هو استنباط أن الله – جل جلاله و تقدست أسماؤه – مستعلٍ بذاته، في السماء.
ثم هناك فريق آخر، من أهل السنة والجماعة- وهم الأشاعرة – يرون في الآية تأويلا آخر. وهو أن (إليه يصعد الكلم الطيب) أي يعرض عليه – جل جلاله، (والعمل الصالح يرفعه) أي الله – سبحانه وتعالى- يرفع العمل الصالح، بمعنى أنه – سبحانه – يتقبَّلُهُ، وبهذا فلا يرون وجود حيّزٍ لله – سبحانه وتعالى – يتحيزُ فيه ويسكنُهُ. والسماء هنا محلُّ كرامةِ الله أي المكان الذي هو مشرَّفٌّ عند الله، لأنها مسكنُ الملائكةِ، هذا التَّفسيرُ موافق للآية المحكمة: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء﴾. قال الحافظُ ابن حجر العسقلانيُّ في فتح الباري بشرح صحيح البخاري: “فمعتقدُ سلفِ الأئمة وعلماءِ السنة من الخلف أن الله منزه عن الحركة والتحول والحلول ليس كمثله شيء” اهـ. وهذا المعنى الذي اختاره الشيخ محمد حسنين مخلوف في تفسير كلمات القرآن المطبوع على هامش معظم نسخ المصاحف في مصر.
إذن عندنا وجهان نحويان، يترتب عليهما وجهان اعتقاديان. الأول يرى أن العمل الصالح هو الفاعل ل (يرفع) والهاء تشير إلى (الكلم الطيب)- وهذا موقف السلفية أو أهل الحديث.
الثاني أن (الله) سبحانه وتعالى هو الفاعل ل (يرفع)، والهاء تشير إلى (العمل الصالح). – والمعنى العرض والقبول-وهذا موقف الأشعرية
السؤال الآن: كيف ترجم مترجمو معاني القرآن المختلفون هذه الآية؟ وهل أدركوا المعاني العقائدية المرتبطة بالأوجه النحوية؟ فلنرى:
Sahih International: To Him ascends good speech, and righteous work raises it.
Shakir: To Him do ascend the good words; and the good deeds, lift them up.
Mohsin Khan: To Him ascend (all) the goodly words, and the righteousdeeds exalt it (the goodly words i.e. the goodly words are not acceptedby Allah unless and until they are followed by good deeds).
***
Arberry: To Him good words go up, and the righteous deed — He uplifts it.
Pickthall: Unto Him good words ascend, and the pious deed doth He exalt.
Yusuf Ali: To Him mount up (all) Words of Purity: It is He Who exalts each Deed of Righteousness. ****
Muhammad Sarwar: Good words (worship) will be presented before Him and He will accept good deeds.
****
نظرة سريعة على هذه الترجمات المختلفة، نجد أن الثلاثة الأول: الترجمة الصحيحة الدولية، وترجمة شاكير، و ترجمة محسن خان، اتخذت الوجه الأول، وقرنت القول بالعمل الصالح.. بل زاد خان بأن أوضح من بين القوسين شرحا إضافيا يبين الموقف العقدي في الآية. وكذلك فعلت الترجمة الصحيحة الدولية ولكنها وضعت الشرح في الهامش.
أما الترجمات الثلاثة التالية :أربري، وبكتول، يوسف علي، فقد أتخذوا الوجه الآخر، ووضعوا كلمة He بحرف استهلالي كبير للإشارة لله -عز وجل- بمعنى أنه هو من يرفع العمل الصالح.
أما الترجمة الأخيرة ل Sarwar فقد أوّلت المعنى تماما بما يوافق الوجه الاعتقادي الثاني، ولم تذكر ترجمة للفظ (الرفع) واستعاضت عنه ب (العرض) presented before him والقبول accept.
***
ولسنا نريد هنا إلى الحكم على جودة الترجمات وصحتها؛ فالوجهان موجودان، وإنما أحببنا توضيح أن أي ترجمة – خصوصا للنصوص الدينية – هي ترجمة متحيزة بطبيعتها، تعكس رؤية واجتهادات واختيارات المترجم وعقيدته. والله أعلى وأعلم.