الهُويّة في القصيدة الحُسينية بين التحول والإضمار

د. موج يوسف |ناقدة  أكاديمية – العراق  

 في مجتمعٍ متعدد القوميات والديانات لابد أن ينشأ صراع قاتل يحاول الحفاظ على الهوية في قالبٍ متماسكٍ وبصورة صلدة ومستقرة.

فحين بدأت القومية في الوطن العربي تتصاعد وتتصدر باعتبارها أيديولوجيا جامعة وموحدة تحت مبادئ بيروقراطية، ظهرت هويات تهدد هذا التماسك القومي وتحديداً عن طريق الشعراء الذين نعدهم خير معبر عن الهوية، وبهذا يمكننا القول إن القصيدة الحسينية قد اخذت موقعاً مميزاً في الشعر العربي والعراقي وتحديداً حين وظفها الشعراء لتعبر عن هويتهم ولاسيما شعراء التيار اليساري والشيوعي حين أخفوها بتلك النسقية  بسبب تأثير الواقع والمجتمع والسياسة على الأديب ممّا جعل قراء الشعر ونقاده ينظرون الى الشعر بوصفه وظيفة أو ناطقاً باسم قضية أو منتمياً لفئة معينة .. ومنه صار تقومينا للإبداع ينصب في المقام الأول سياسياً ووطنياً بحكم الهويات.

كذلك اللغة لعبت دوراً مهماً في تشكيل الهوية والتي عدت احد الرموز الفعّالة في بنائها؛ كونها تمتلك الخصوصية المدهشة من حيث إنها عنصر وأداة اتصال مشتركة.

وعند بداية إرهاصات القومية رأينا القصيدة الحسينية بدأت تشكل هوية الشاعر، فهذا السياب الذي كتب قصيدته الهمزية (إلى يزيد) عام 1948 يظهر فيها رفضه للقومية بنسق مخفي فيقول:  إرمِ السماء بنظرة استهزاء

واجعل شرابك من دم الأشلاء

واسحق بظلك كل عرض ناصع

وأبحْ لنعلك اعظم الضعفاء

واملأ سراجك إن تقضي زيته

ممّا تدرّ نواضب الأثداء

واخلع عليه كما تشاء ذبالة

هُدب الرضيع وحلمة العذراء

واسدد بغيّك يا يزيد فقد ثوى

عنك الحسين ممزق الأشلاء

لأن القراءة السطحية للنص تظهر أن السياب يحث يزيد على أن يستخف بالسماء ويحرضه على سفك الدماء حسب ما يرى الكاتب عطا يوسف أنه (لا يتجاوب مع المناسبة وغير مستحسن).

لكننا لنا قراءة مغايرة لا تتفق معه. فالشاعر في النص كان يستعرض ما فعلته الدولة الاموية في تلك الحقبة ويبين أنها كانت منطلقاً للقمع السلطوي حين وظفت الاسلام كقومية وذريعة لأحقية حكمها ومنها بدأ إقصاء الثوار وكل من يخالفها الرأي ، فهوية الحسين في النص ثورية يسارية بدلالة تمزيق الاشلاء كما فعلته السلطات المحلية مع اليسار وهوية السياب مزدوجة في ظاهرها لأنها تنحو إلى منحىً قومي؛ بسبب توظيف التاريخ والشخصيات التراثية وبناء القصيدة عمودياً ، لكنّ ايديولوجية الشاعر جاءت فاضحة لهويته منها تمجيده للعنف الواضح في النص.

وهذا التمجيد دعا إليه سارتر في تقديمه لكتاب معذبو الارض ( العنف الذي لا يمكن قهره هو جوهر الانسان اذ يعيد خلق نفسه بنفسه. وأن معذبي الأرض لا يمكن أن يصبحوا بشراً الا عبر الجنون القاتل ).

والأمر الآخر أنه أشار إلى حقيقة حكام العرب الذين اتبعوا سياسية يزيد في الحكم لكنه اخفى الحقيقة؛ لأن الجهر بها يولد الحروب كلها، ولذلك تفادياً لمثل هذه الحروب المدمرة ينبغي على الإنسان أن يكبح رغبته الطاغية في الجهر في الحقيقة ولا سيما الشاعر.

فالسياب اتخذ هويتين متناقضتين الظاهر القومية والمضمر اليسارية الثورية ممّا أوقعه في تلك الازدواجية .     

أما مظفر النواب فقد وجه خطابه الى الحسين في قصيدة الوقوف بين السماوات ورأس الإمام فيقول:                     

تعلمتُ منك ثباتي وقوة حزني وحيداً                  وكم كنت يوم الطفوف وحيداً

ولم يكُ أشمخَ منك وأنت تدوسُ عليك الخيول      من بعيد ورأسك كان يحزُّ حريق الخيام وفي قصيدة من دفتر السليل يقول :                          أننا في زمان يزيد كثير الفروع                            وفي كل فرع لنا كربلاء                                   وكشف إحدى وعشرون عمرو بن العاص               ونصف نعم ثم النصف.

وهنا نجد الشاعر قد جعل من الحسين هوية جامعة للعرب وليست فردية ، واخترتُ القصيدتين  السابقتين ؛ لما فيهما من هوية مفتوحة على الآخر فحين تنفتح الهوية تزداد غنى ويمكننا أن نعمل مزواجة بين النصين، ففي الأول هوية الشاعر استمدت من الحسين التي ترمز للشيوعي المناضل في قضبان السجون والواقف في وجه حكامه ، والثاني هوية الآخر (إننا في زمان يزيد كثير الفروع) أي الهوية القومية التي بدت تسود في البلاد العربية ومن هنا انكمشت الذات وتقلصت في انتمائيتها ممّا ولَّد عند الشاعر هوية وطنية مخنوقة، لكنه بدأ يشحنها بإمكانيات النمو، وبالتفجر المشع.

ولا ننسى لجوء الشاعر إلى شخصية عمرو بن العاص التي نقلت سياسية حكم الدولة الاسلامية الى بني أمية عن طريقه اي بالحيلة والذين حكموها هم ليسوا حكاماً شرعيين وهذا يحيلنا إلى القول إن الحكام العرب في تلك المرحلة (الستينات وما بعدها) هم غير شرعيين وبهذا افصحت القصيدة الحسينية عند النواب عن هويته الوطنية . وفي قصيدة رشدي العامل نرى أنه اختار قناع الحسين ليخفي ذاته فيقول :         

ها أنا الآن في العراء

  أنكرتني ضفاف الفرات

فلم القَ قطرة ماء

فاقطع من جسدي ما تشاء

سيفل الحديد الوريد

جرب الآن في جسدي ما تريد ذاك رأسي

على طبقٍ بارد يا يزيد  …

إلى نهاية القصيدة والشاعر حين يلجأ الى تقنية القناع يحاول أن يمرر انساقه بحرية مطلقه وهذا ما فعله العامل، والأهم أنه اعتمد في القصيدة على لغة يمكننا أن نطلق عليها لغة الارهاب ومن سلبيتها أنها تخدم غرض الذات فتجمع بين القاضي والمدّعي والسجّان والقاتل وبهذا ترصد هوية الشاعر التي اتخذت من الحسين هوية واستعملته صوتاً عنها ، فهويته عربية لكنها مقتولة . كذلك لجأ الى توظيف التراث في (ذاك رأسي على طبقٍ بارد يا يزيد) فهنا يشير الى قصة قتل يوحنا المعمدان الذي قتله حكامه بذريعة دينية وسياسية لأنه خالف الرأي.

فبالرغم من ايديولوجية الشاعر الشيوعية لكن تبدو هويته مقتولة من قبل القومية المحتمية بشرعية الدين والعروبية لتسويغ مهمة القتل بحجة أن المتهم هو عدو المصلحة القومية.

الحلقة 2 بعد عملية التحول السياسي في العراق عام 2003 وسقوط النظام وتهشيم الهوية المركزية التي فرضها النظام السابق (القومية) بدأ المجتمع العراقي يلجأ الى خلق هويات يحتمي بها ويثبت انتماءه إليها وبهذا يمكننا القول إن هويته أصبحت قاتلة حسب تسمية أمين معلوف ؛ وذلك لأن الفرد العراقي وقع في موقف متحير مذهبي متعصب واذا به يتحول الى قاتل أو نصير له وأصبحت رؤيته للعالم مواربة ومستوحشة . ومن هذا المنطلق حدث تحولاً في البنى الاجتماعية والفكرية عند الشاعر حين غدا عصره اكثر حدة وتعقيداً، وصراعاً يحملُ تآكلاً وتفكيكاً لوحدة المجتمع ومن هنا بدأت تظهر مهمة الشاعر في اتخاذ هوية تحاول أن ترمم الحطام ، فالشاعر حمد الدوخي في قصيدة ( الحسين أئمة ) بنى هوية بعيدة عن العرق والقومية والمذهب فيقول :      ليس الحسين إماماً

بعض الحسين أئمة

ليس الحسين إماماً

ظل الحسين أئمة

وقد جاء فرداً ولكن

لوحده صار أمة

ففي الوقت الذي أصبح الانتماء الديني في العراق العنصر الاساس للهوية عند عامة الناس ، نرى الدوخي قد اخذ مساراً آخرَ في قصيدته عبر توظيفه لشخصية الحسين التي ابعدها من الإطار الديني وادخلها في صلب الهوية الأُمميَّة ( قد جاء فرداً ولكن لوحده صار أمة)، فهذه الهوية تكون جامعة لشتات المجتمع العراقي في هذه المرحلة، وبهذه الأُمميَّة نستطيع أن نهدم سور العصبية التي بنيت من اسمنت الحقد في العراق. وفي مدونة العاشق للشاعر عارف الساعدي نرى هوية أخرى، إذ يقول: 

مازال يذكر كيف يطرق كل أبواب المحلة              يأخذون ثوابه فيهللُ

ويعود ويسأل أمه هل من ثواب ؟                      ربما قد ظل في اقصى المحلة منزلُ                     فتلم ما في القدر ثم تقول ويحفظك الحسين        وحاذر المطر الذي لا يخجل                      ……………. إلى قوله:

فقراء آل البيت نحن نحبُهم

ونذوب فيهم عاشقين ونقتل

فقراء يا أمي نجوع بحبهم

ويجيء غيري لا يحب ويأكلُ

ومن يتأمل حياتنا في العراق بعد 2003 يرى نوعاً من التفاوت أهمه بين المؤسسة السياسية من جهة وبين الضرورات الداخلية للتطور الاجتماعي والاقتصادي من جهة اخرى وهذا أخذ الى تفكيك الهوية الاجتماعية من الداخل وشلّ حيوتها.

لكنّ المجتمع كان يحمل طقوساً ذات ثقافة دينية مستلة من الموروث الشعبي ولا سيما في إقامة مجالس العزاء الحسيني وتوزيع الأطعمة وتذكر فجيعة آل البيت، في السابق كانت هذه الحركة مشلولة لكنّ الآن توسعت وتحررت وشكلت هوية مجتمعة والتي رصدها الشاعر عارف (فقراء يا أمي نجوع بحبهم ويجيء غيري لا يحب ويأكل) ، فهذه الطقوس عملت في انتعاش الهوية الاجتماعية واخرجتها من الفرعية الصغيرة وادخلتها في عمومية واسعة اذا أصبحت لا تقتصر على فئة او طائفة معينة ، بل الكل يشترك فيها فالشاعر عارف الساعدي بنى هويته من صميم تقاليد مجتمعه . بينما الشاعر أجود مجبل في قصيدة (سنابل الحسين) يعيدنا الى جوهر الهوية فيقول:        وأنتَ تحرّضُ زَهر النشوب

وتؤمئُ للغيم كي يجهرا

ورغم احتشاد المسوخ عليك

رأيتُ من الغد ما لا يرى

فكنتُ دماً لا  يجيدُ الغياب

ولم ينتسِب مرةً للثرى

فالهوية في مرحلة تغير مستمر لكنّ جوهرها الأصلي في الماضي بوصفه الأصل أو المركز لها ، فأجود مجبل بلغته الإبداعية انطلق من جوهر الهوية في شخصية الحسين التي يرى أنها هوية حيّة الى الآن (فكنت دماً لا يجيد الغياب) فهنا الهوية صيرورة متواصلة تبدأ من الاصل وتطرح سؤالاً من أنا ؟ لكن دون جواب . وهذا ما نلاحظه في هوية أجود مجبل.

أن الإنسان في الإبداع مشروع لا يكتمل وهكذا الهوية مازالت قيد الاكتمال في المرحلة الحالية بالعراق والقصيدة الحسينية كانت حاملة لعدة هويات ووجهت الذات او الشاعر إلى المزيد من اكتشاف ما في اعماق هويته .   .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى