رواية “الدّجاجة التي حلمت بالطيران” ما وراء الأكمة (1 – 4)

أ.د. يوسف حطّيني| أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات

أولاً ـ تمهيد:

ثمة في التراث الإنساني كثير من التجارب التي تعتمد على أنسنة الحيوان، وإناطة أدوار حياتية أو سردية به، ولعلنا نذكر الهدهد والغراب والناقة والكبش والحوت …إلخ  في تراثنا الديني، و”كليلة ودمنة” و”حكايات لافونتين” و”مزرعة الحيوان” في تراثنا الأدبي؛ لنؤكّد أن الحيوانات كانت وما تزال مشجباً نعلّق عليه دوراً حياتياً أو سردياً، أو حكمة ضلّت طريقها إلى الإنسان.

ونحن هنا بصدد تناول رواية شهيرة، تسند دور البطولة إلى دجاجة؛ إنها رواية “الدجاجة التي حلمت بالطيران”، للكاتبة الكورية صن ـ مي هوانغ، التي تصنّف ضمن روايات الأطفال، غير أنّها عند التحقيق، تقترح مستوى آخر من الفهم، غير مستوى التعبير المباشر.

تعرض الرواية حكاية الدجاجة إبساك من خلال أحد عشر فصلاً، عناوينها على التوالي: لن أضع بيضاً بعد الآن، وإبساك تترك القنّ، وطيور الحظيرة، والصديق، والفراق واللقاء، وإبساك تغادر المزرعة، والجوّال والصيّاد، وماما.. لقد خلقتُ لكي أبطبط، وابن عرس يجول قرب البركة، والإيقاع بالصياد، وعندما يتساقط الثلج مثل أزهار الخرنوب.

تحلم إبساك بالحرية، وتنظر دائماً إلى عالم تراه سعيداً خارج القنّ، كما تشتاق إلى أمومة محرومة منها، فتضرب عن الطعام؛ لأنها لا تريد أن تضع بيضاً للبيع. وحين تصاب بالهزال يأخذها المزراع؛ ليلقي بها مع مجموعة من الدجاجات المحتضرة في حفرة الموت؛ حيث تنجو بتشجيع من فرخ البط البري المتشرد، من أنياب ابن عرس يترصّدها من بداية الرواية حتى نهايتها، فتعود إلى الحظيرة غير مرحّب بها، ثمّ تغادر إلى شجرة الخرنوب الأسود، ثم إلى أجمة تجد فيها بيضةً فترقد عليها، تحت حراسة فرخ البط البري المتشرد ورعايته، إلى أن يفترسه ابن عرس في ليلة عجز فيها عن السهر بسبب إنهاكه الشديد؛ وذلك بعد أن طلب منها أن تغادر الأجمة بعد أن تفقس البيضة، لا إلى الحظيرة بل إلى البركة، غير أنّها عادت إلى الحظيرة كي تأمن ابن عرس، فوجدت المزارع وزوجته متفقين بشأن فرخ البط الصغير وشأنها: أن يقصّا جناحي فرخ البط الصغير (الرأس الأخضر ـ بايبي) كيلا يطير، وأن يجعلاها وجبة شهية؛ فتهرب مع صغيرها بعد أن أدركت اختلافه عنها، إذ لاحظت بأن رجليه تمتلكان غشاء جلدياً، وتستنتج أن فرخ البط هو ابن صديقها وبطته البيضاء التي افترسها ابن عرس، وتعيش في حقل القصب مع صغيرها الذي يتدرب مع رئيس البط وبطات الحظيرة في البركة. وبعد مدة يظهر سرب كبير من طيور البط البري، وتدرك أبساك أنّ صديقها كان يريد من ذهابها إلى البركة أن يلتحق الصغير بعائلته الكبيرة التي يغادر معها أخيراً نحو بلاد الشمال.

وفي تطور درامي مثير تسمع إبساك قرب شجرة الصفصاف صوت بكاء حيوانات صغيرة، تكون لأنثى ابن عرس، ولكنها لا تنتقم منها، بسبب وحشية الأنثى الكبيرة، بل إنها تشفق عليها، وعلى أنثى ابن عرس التي تسهر ليلاً ونهاراً؛ لتصطاد، وتؤمن طعام صغارها الجائعة.

وعندما يغادر سرب البط نهائياً، تفرح إبساك لابنها؛ لأنه حقق حلمها في الحرية والطيران، وتحزن في الوقت نفسه بسبب فراقه، وتخاف الوحدة أكثر مما تخاف أنثى ابن عرس، فتغمض عينيها ليداعبها حلم الطيران، وفتقترب منها أنثى ابن عرس وتصطادها.

ثانياً ـ فضاء الحرية في زمن إبساك:

قدّمت صن ـ مي هوانغ حكايتها ضمن حبكة بسيطة، تتحرك أحداثها تعاقبياً، على الرغم من استذكارات قليلة للماضي، وإرهاصات قليلة تشي بأحداث مقبلة، وربما كان سبب هذه التعاقبية أن الرواية تتوجه للأطفال في مستوى من مستوياتها. وقد بدا الفضاء الروائي في المستوى الطفلي مفتوحاً بشكل غالب، إلا أنه حمل رمزية تحفل بالحرية، ورمزية أعمق تتلمّس في كل مكان مفتوح جديد مفتوحاً آخر أكثر اتساعاً وغموضاً؛ فحين كانت الدجاجة إبساك “تعيش في قن أشبه بالقفص”، ص11، كانت الحرية بالنسبة لها لا تتجاوز ساحة الحظيرة التي ترى فيها كل ما تحبه من مفردات الطبيعة الرومانسية: “كانت تتذكر كل شيء يجري في العالم خارج باب سجنها؛ بدءاً من تزايد حجم القمر وتناقصه بعد ذلك، وصولاً إلى شروق الشمس، والشجار بين الطيور في ساحة الحظيرة”، ص15. وكانت حين يفتح باب الحظيرة تتمكن “دائماً من رؤية شجرة خرنوب أسود كبيرة. أحبّت إبساك هذه المنظر، وتعلّقت به أكثر من أي شيء آخر”، ص12. لقد تعلّقت بالخارج/ الحظيرة عندما كانت في القن، ثم تعلّقت بالخارج/ الحقل عندما كانت في الحظيرة، ثم تعلّقت بالبركة حين كانت في الحقل، وحين نالت حريتها على الأرض وجدت حرية أخرى في السماء لا تُنال إلا من قبل ذوي الأجنحة القوية التي تستطيع التحليق، فحققتها من خلال صغيرها ومن حلم ما قبل الموت.

غير أن هذا التعلق الرومانسي بفكرة الخارج/ الحرية سرعان ما يتبدى لها عن خطر مرتهن به، فالحرية مسؤولية وانتباه: “مكثت إبساك في الحقل طوال النهار، وأكلت ديدان الملفوف، تمددت على بطنها بعد أن نكشت التراب بمخالبها، كانت تستمع بدرجة أكبر مما تخيّلت (…) لكنّ مخاوفها ازدادت عند الغسق: يجب أن أعثر على مكان آمن لأمضي فيه الليلة. أعرف أن ابن عرس يتواجد هنا في مكان ما”، ص55.

أدركت إبساك بعد الخروج من القن أنها كانت تعيش في مكان يقايض أمنها بحريتها، وتلك فكرة تريد الكاتبة أن تصل للكبار أيضاً، فقد “أوشكت الدموع على الانهمار من عينيها حين أدركت حقيقة وضعها، فقد ظنّت أن كل شيء سيكون على ما يرام ما إن تخرج من القن”، ص40؛ لذك راحت تحاول البحث عن مكان يؤمن لها شبه حماية، ثم عن مكان نصفِ خَطرٍ ونصف حرّ، ثم عن مكان حرّ تحرسه بيقظتها وقوّتها.

لقد جرّبت أن تحرس حريتها عبر الإفادة من نباح الكلب قرب الحظيرة لتحقيق أمنها، فقد “كان يزمجر في كل مرة يشم فيها رائحة ابن عرس، وهكذا لم يتجرّأ هذا الأخير على الاقتراب، فشعرت إبساك أنها آمنة من دون أن تلجأ إلى الحظيرة”، ص59. ثم “اكتشفت أن الحياة في في باحة الحظيرة أصعب بكثير مما كانت تتوقع، لكنها مع ذلك رفضت أن تفكّر في العودة إلى القن”، ص50.

ومثلما أفادت الكاتبة من ترميز المكان أفادت أيضاً من تحميله بعداً اجتماعياً طبقياً، وتجلى ذلك في عالم الحيوان ترميزاً لما يحدث في عالم البشر، فالمسير والاستقرار والطعام يتم حسب تراتب اجتماعي يتضح من خلال السياقات التالية:

  • “توجه الديك مع دجاجته إلى الحظيرة أولاً، وتبعهما رئيس البط والبطات الأخرى، وأخيراً دخل فرخ البط البرّي. عندها دخلت إبساك بكل حذر”، ص43.
  • “استقرّ الديك ودجاجة الحظيرة في مكانهما العالي، ونظرا إلى الأسفل نحو الطيور الأخرى. فيما تجمّعت البطات معاً، لكنّ فرخ البط البري جثم بعيداً عنها قرب الباب”، ص43.
  • “أخفت البطات رؤوسها في وعاء الطعام وانهمكت في ابتلاعه، لكن الرأس الأخضر تناول الطعام وحده من الإناء الصغير الذي قدمته له زوجة المزارع”، ص145.

كما حمّلت هوانغ الألوان في أثناء تأثيث المكان دلالات موروثة، فحمّلت الأسود عبء الإرهاص بالنهاية الدامية حين أشارت إلى شجرة الخرنوب الأسود التي كثيراً ما رأتها، حتى وهي داخل القن حين يُفتح بابه: “تمكّنت دائماً من رؤية شجرة خرنوب أسود كبيرة. أحبّت إبساك هذه المنظر، وتعلّقت به أكثر من أي شيء آخر”، ص12.

ترى.. هل هي إشارة مبكرة للمكان الذي سيشهد موتها، نتذكر هنا رواية “رجال في الشمس” لغسان كنفاني، حيث يشير الافتتاح السردي إلى طائر أسود يحلّق على غير هدى، ولا سيما أن اللون ذاته يحضر هنا وهناك ليؤشرا إلى موتين قادمين. يقول غسان كنفاني عن أبي قيس:

“واستلقى على ظهره حاضناً رأسه بكفيه، وأخذ يتطلع إلى السماء: كانت بيضاء متوهجة، وكان ثمة طائر أسود يحلق عالياً وحيداً على غير هدى”. (1)

ومثلما حمَلَ الأسود دلالته التاريخية الموروثة فعل الأصفر والأخضر الأمر ذاته، فحملا ـ على التوالي ـ دلالة اقتراب النهاية في الخريف، ثم التجدد والاستمرار في الربيع، وهما الأمران اللذان لم يكن لإبساك أن تكتشفهما لو بقيت أسيرة القنّ:

“تعجبت إبساك من كيفية تحمّل الأوراق الرياح القاسية وقطرات المطر الشرسة، قبل أن يتحول لونها إلى الأصفر. وتعجبت مجدداً عند قدوم الربيع حين ظهرت الأوراق ذات اللون الأخضر الفاتح مجدداً”، ص14.

أمّا الرائحة فجاءت لصيقة بمفهوم الحرية؛ فهي نتاج الخارج، حتى يبدو الداخل، وكأنه بلا رائحة، فلا تتنسم إبساك إلا العبير القادم من الخارج:

  • “وارتحلت رائحة الأزهار بعيداً مع نسمات الهواء، وتسللت إلى القن، ثم إلى قلب إبساك”، ص13.
  • “حملت نسائم الهواء معها العطر اللطيف لأزهار شجرة الخرنوب”، ص24.

أما الزمن فقد جاء فيزيائياً حيناً، وفلسفياً حيناً آخر، مرتبطاً بمؤشرات الطبيعة وعناصرها، فالصبح الحيادي يعلن عنه الديك: “استيقظ الديك، وسرعان ما رتّب من مقعده العالي ريشه للحظة، مستخدماً منقاره، ثم نشر جناحيه، صاح بعد ذلك: كوكو كوكو”، ص45.

غير أنه يمكن ألا يكون حيادياً، ويمكن له أن يحمل الأسى لإبساك التي فقدت صديقها فرخ البط البري/ المتشرد، فقد “انبلج فجر يوم جديد (…) لكن فرخ البط البري الذي اعتاد أن يراقب الجوار بينما كان يحرك جناحيه اختفى”، ص ص86ـ86، كما يمكن له أيضاً أن يكون نذير شؤم يشي بالخطر الذي يعنيه تحرّك القصب، ما يدلّ على أنّ ابن عرس بين جنباته: “في الصباح الباكر هبّت رياح قوية، وتحرّك القصب بطريقة تنذر بالخطر، فارتجفت إبساك عندما اخترقت الريح الباردة ريشها”، ص155.

ولا تلتزم هوانغ طريقة واحدة للإشارة إلى الزمن، فقد تستخدم اليوم والشهر والفصل؛ إذ “لم يقترب أحد من العش في حقل القصب منذ بدء ولادة القمر الجديد، وحتى اكتماله”، ص116، وهذا مؤشر زمني شهري يدلّ على مدةٍ، يمكن أن تطول في سياقات أخرى؛ لتدلّ على فصل محدّد على نحو ما نقرأ في السياقات التالية:

  • “استمرّ هطول المطر الغزير لفترة طويلة. كان ذلك معتاداً في فصل الأمطار”، ص129.
  • “عاشت إبساك حياتها خلال فصل الشتاء متنقلة، ولم يتوفر لها الطعام في ذلك الحقل البارد، كما أن ابن عرس كان أكثر إزعاجاً من أي وقت مضى”، ص172.
  • “مرّ الخريف على هذا النحو”، ص155.
  • “وشيئاً فشيئاً ازدادات برودة الخريف”، ص155.
  • “كانت السماء ملبدة بالغيوم، وانحنت القصبات عند هبوب الرياح”، ص157.

كما يتخّذ الزمن بعده الفلسفي من خلال تداخل متزامن لعدة أحداث أبرزها ولادة فرخ البط البري الجديد/ الرأس الأخضر ـ بايبي بينما كانت إبساك تشيع صديقها بصيحة أخيرة أرسلتها نحو الشمس؛ إذ تذكرت البيضة، فعادت راكضة نحو أجمة الورد:

“ما يحدث الآن أشبه بحلم. كان كل شيء فيه صغيراً: عينان صغيرتان، وجناحان صغيران، ورجلان صغيرتان. لكن، كل شيء فيه كان رائعاً إلى حدّ كبير”، ص87. وقد أفادت الكاتبة من ترسيخ هذه الفكرة عندما أكدت أن ذلك “الصباح كان خاصاً بالنسبة لإبساك. هناك شيء ما يحدث في هذا العالم على الدوام. هناك كائن ما يموت وآخر يولد، هناك فراق ولقاء”، ص88.

وإذا كنا نفتقد الاستذكارات، إلا القليل منها، في هذه الرواية، فإن الاستباقات حاضرة؛ ذلك أن الدجاجة إبساك شخصية مشغولة بالمستقبل الذي يعني لها أحلاماً لا تتزحزح عنها: أحلام الأمومة والحرية والطيران، ويمكن لنا أن نجلّي هذه الصفة من خلال الصياغة اللغوية التي تحيل دائماً إلى ما بعد.. ويمكن أن نستعين ها هنا بالمقتبسات التالية:

  • “سأتمكن من أن أجثم على البيض، ومن تربية فراخي”، ص24.
  • “سأخرج الآن من هذا القفص”، ص24.
  • “سأضع بيضاً، وسوف أتمكن من تربية فراخي”، ص48.
  • “لم نر الصياد منذ يومين، لكنه سوف يأتي. أنا متأكدة من أنه سوف يتسلل إلى حقول القصب”، ص130.

(يتبع)….

………

الهوامش:

  • غسان كنفاني: الآثار الكاملة، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1972، مج1، ص38.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى