إلى  أبي العلاء المعرّي

عبد القادر الحصني | سوريا

 سُقيتِ بوطفاءٍ من المزن مدرارِ

                  وحيّيتِ يا دارَ الحبيبة من دارِ

وحُلّيتِ بالصبحِ، استفاق غمامُه

             على القطر ممزوجَ النطاف بأنوارِ

ترفّقَ، حتى خلتُ وقعَ انهماله

                      أناملَ كادت أن تهمَّ بأوتارِ

فأصغتْ لما في قبضها وانبساطها

            ترى صوراً للنار في مائها الجاري

ظلالاً وأضواءً وأُنساً ووَحشةً

             ومرفوعَ أستارٍ ومسدولَ أستارِ

كما مشّطتْ بالشمس شعرَ صبيّةٍ

    غيورٌ على عينيّ من جسمها العاري

فأسبلتُ أجفاني لأسترَ ما بدا

     وأكشفَ ما تحت الشعور من اْسرارِ

فيا دارها: متناً وفرعاً وناهداً

                وأهيفَ لم يُعقد عليه بزُنّارِ

تناغمت الأضدادُ فيكِ، فحسنُها

                  خليطُ ليالٍ حالكاتٍ وأقمارِ

سُبيتُ بها كلاًّ، فما أنا قائلٌ

         إذا بلغتْ شيخَ المعرّة أخباري؟!

وكيف إذا يممّتُ شطرَ دياره

          برهط ندامى أو بجوقة سُمّارِ؟!

وراحت غواياتُ المعازف تغتلي

              بتوقيع طبّالٍ وتشبيب زمّارِ

وترنيم عودٍ، ما تنهّد سامعٌ

             على عمره إلاَّ حباه بأعمارِ

تراه سيقليني، ويزورُّ عاتباً

          ويلتفُّ مزعوجَ الفؤادِ بأطمارِ؟!

مُهيناً لشأني أنّني نسلُ عالمٍ

          أدارَ له ظهراً، على أهله زارِ

أم اْنّ عروسَ الزّنج تشفعُ عنده

لمثلي، فتسترضي وتبسُط أعذاري

فإن فعلتْ أعفَتْ من اللوم عاشقاً

             يُظنُّ به جهلٌ، ولكنّه دارِ

رأى العيشَ إمّا ضارياً أو فريسةً

       وحُبَّ له ألاّ يكونَ هو الضاري

وحُبَّ له أن يصبح السلمُ عالماً

          يرفُّ بأطيارٍ، ويندى بأزهارِ

وأن يركض الأطفالُ ملءَ رحابه

    وجوهَ سعودٍ ملءَ سمعٍ وأبصارِ

ولكنّها الدنيا، وأنتَ ازدريتَها

     بأفٍّ لها مأوى لصوصٍ وأشرارِ

وأفٍّ لأهليها على القتل نشّئوا

على كوكبٍ أشفى على جرف هارِ

وحتى الديانات التي شاء ربُّها

               تآلفَهم طُرّاً بحبٍّ وإيثارِ

أحالوا بها روحَ المحبةِ بُغضةً:

     فتنهاشُ أنيابٍ، وتمزيق أظفارِ

وقلتُ: أنا دارٍ، وإنّي يعنُّ لي

         مجافاةُ لذّاتٍ، وزهدٌ بأوطارِ

وأن أنتحي ركناً من الأرض نائياً

      ألوذُ بديرٍ، أو أعوج على غارِ

كلانا، إذاً، مستوحِشٌ ومُنَفَّرٌ

    ويُسقى بكأس مُرَّةٍ أيَّ إمرارِ

ولكنّ فرقاً بيننا أنّ شيخنا

         أقام طليقاً بين دارٍ وديّارِ

وأنّي بأقفاصٍ أدور، ولو بدتْ

على تلكم الأقفاصِ أشكالُ أمصارِ

لذا أنا أطلقتُ العنان لوحشتي

   أدقّ بأجراسي، وأركبُ أسفاري

وأرتادُ أشتاتاً من الناس زائراً

     وأحفل في داري بأشتات زوَّارِ

أكسِّر بالضوضاء صمتاً مبرِّحاً

      بجارِحِ إحساس وموجِعِ أفكارِ

كفعلة طفلٍ خافَ ظلمةَ دربهِ

      يرى ألفَ جنيٍّ بخطرةِ خطَّارِ

فراح يغني رافعَ الصوتِ: إنّني

شجاعٌ، وأهلي من ورائي وأنصاري

وما هو إلاَّ الخوف يشبه عنده

      المقيمُ بدارٍ من يهيمُ بأقفارِ

فذا قدرٌ يعتامُه متربّصٌ

     وذلك محفوفُ المسيرِ بأقدارِ

فقدِّرْ إذاً يا شيخُ أنّي مُفَجَّعٌ

    وأنّ بحلقي غصّةً جمرُها وارِ

وأنّي حزينٌ حزنَ ليلٍ نجومُه

      تدوخ بدهريٍّ من الفُلكِ دوّارِ

وأنّي حفيٌّ بالجمال، دعوتُهُ

ليأوي إلى روحي، ويسكنَ أشعاري

فليتَ الشذا يحنو على قلب متعبٍ

  وليت لمضنى الجفنِ نبعةَ نوّارِ

وليت لمحمومِ الجبينِ مسيحةً

 ببردِ شفاهٍ تزرع الوردَ في النارِ

وأدعو لمن طالت لياليه مفرَداً

عشياتِ حبٍّ موصَلاتٍ بأسحارِ

سوى الشكّ لا أرجو له البُرءَ إنّه

محطّمُ باب الغيب تحطيمَ جبّارِ

أقدِّسُ بلواهُ، وألثم جمرَهُ

وأعصرُ (أطروحاتِه) عصرَ خمّارِ

لأسكبَه ملءَ الرؤوسِ مُزلزِلاً

من الناس مخدوعَيْ قرارٍ وإقرارِ

وأهتكَ سترَ الزيفِ عن حال أمّةٍ

  تُساسُ بعيّارٍ، وتُرعى بشُطّارِ

وتُدهى بأصناف الدهاقين أنتنتْ

نفوسٌ لهم سودُ المطامعِ كالقارِ

«فيا موتُ زُرْ إنّ الحياةَ ذميمةٌ»

وأرذلُ عيشٍ تحتَ رحمةِ (بسطارِ)

ويا نفسُ أيُّ الجِدِّ ينفعُ واقعاً

 إذا انهار من عارٍ مُشينٍ إلى عارِ

وعفوَك يا شيخَ المعرّة إنّها

     شظايا شعورٍ بالفجيعةِ موّارِ

أخاف وقد حلّ الغُزاةُ ببابنا

   انتظارَ خلاصِ اليائسين لجزّارِ

وأن أغتدي في عقر داريَ لاجئاً

       مهدَّمَ أو جارٍ، ممزَّقَ أوكارِ

تهيمُ على وجهي ذئابُ توجّعي

وتهدلُ في أطلال روحيَ أطياري

وتدركُ يا شيخَ المعرّةِ عندها

    علام أنا أقبلتُ أحملُ قيثاري

فهذي بلادي دارُ كلِّ حبيبةٍ

يهدهدها شعري عشيّةَ إعصارِ

وينشدها حزناً حلاوةَ روحه

  وقد غاض فيه ذكرياتٌ لأنهارِ:

سُقيتِ بوطفاءٍ من المزنِ مِدرارِ

  وحيّيتِ يا دارَ الحبيبةِ من دارِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى