رحلة في قلب حبة سكر
بقلم: زياد جيوسي | عَمَّان
“حبة سكر” المولود الأول للسيدة الرقيقة ميرنا حتقوة، فهل الكتاب سيكون بحلاوة السكر كما العنوان أم سيكون حافلا بمشاعر أخرى؟ هذا السؤال الذي دار بذهني بدءًا من العنوان حتى تصميم الغلاف بألوانه الزرقاء المتدرجة مع بلورات السكر كما قطع من الألماس، وقد سعدت أن أهدتني اياه الكاتبة حين التقيتها في منتدى البيت العربي الثقافي بعد غياب قرابة العام والنصف قضيتها جوالا في رحاب فلسطين، فارتحلت روحي بالكتاب الذي صنفته “يوميات”، علما بأن اليوميات دوما بعض من السيرة الذاتية التي تكتب بشكل شبه يومي، وقد حلقت مع الكتاب بهدوء متأملا الاهداء المعبر مسبقا عن بوح روح الكاتبة باهدائها: “إلى رجل شرب رحيق امرأة أحبته.. ثم غادر”، ونصوص الكتاب بغالبيتها هي شذرات وخواطر وجدانية تتراوح بين الخاطرة وشذرات سريعة تأخذ طابع الحكمة القصيرة، وتنقلت ببعض منها بين البوح على لسان الكاتبة كأنثى وبين البوح في بعضها الآخر على لسان ذكر، وكأنها تتقمص شخصية الآخر الذي تكتب اليه وأهدته كتابها وبوح روحها، فهل ستكون حروفها تذوب في حبة سكر معبرة عن روحها، كما همساتها: “الكلام بوح الروح.. لا صنع الحروف”.
في النصوص الأولى والتي حملت عنوان: “أوراق معتقة” كانت روح الكاتبة تجول عبر 51 شذرة سريعة، غلب عليها مشاعر وأحاسيس انسانية مختلفة منها نماذج انتقيتها لبعض هذه المشاعر ومنها: العتاب: “قلبك مزدحم كمحطة قطار قديم”، ومخاطبة الذات: “شقية، كهرة تموء حول صاحبها، تبتغي دفئا من برد قادم”، والوجدانيات: “ما كان الليل إلا كتابا نقرأ فيه قصة حياتنا”، والمعاناة: “خوف الفقد بعد اكتمال اللذة، حزن مختلف”، والخيبات: “قالت له: أرجو أن تدرك قيمة الدقيقة في حضرتي، لم يسمع.. لأنه كان يغلق الباب”، والفرح: “يتألق الفرح في حياتنا كحبات لؤلؤ على عنق حسناء”، والتساؤلات: ” أيهما أشد صدقا؟ ورقة مكتوبة بيد امرأة عاشقة، أم ورقة بيد رجل عابث”، والأمل: “مهما اشتد جفاف الأيام، سيبقى رذاذ المطر الناعم المنهمر كعطر مختلف”، والحزن: “ما لون حزنك سيدتي؟”، ضمن لغة مكثفة شاعرية في غالبيتها، تتراوح بين مشاعر الضعف الانساني من ناحية وقوة المواجهة والقرار من ناحية أخرى: “قد نلتقي لا كما اريد ولكن كما أشتهي”.
في هذه النصوص التي تراوحت بين الشذرة وهي فن أدبي قديم يهدف لتوصيل فكرة بأقل الكلمات، واستمد الاسم لغويا من شذرات الذهب، وبين الومضة وهو صنف حداثي يعود للسبعينات من الشعر القصير جدا “النثيرة” واستمد اسمه من ومضة البرق حيث تقوم على ومضة سريعة مكثفة المعنى والكلمات، تجولت روح الكاتبة وإن كانت نصوصها تميل بغالبيتها لتصنيف الشذرة، وهي مقطوعات منفصلة عن بعضها تلخص ما يريده الكاتب باختصار شديد بعيدا عن الاطالة التي تضعها في تصنيف الخاطرة، والشذرة لحظة انفعالية بالعادة تكتب بشكل مكثف وقصير للوصول الى فكرة مكثفة، تعتمد على التنوع وانفصالها عن بعضها على شكل شذرات مقطعة، تبتعد عن أنماط النصوص المعروفة كوسيلة للتعبير عما يجول في النفس، والبعض وصف هذا النمط الأدبي بالكتابة بالنصوص العابرة للتجنيس بسبب خروجها عن الأنماط الكتابية السائدة والمعروفة.
من الشذرات انتقلت الكاتبة الى نصوص غلب عليها صفة الخاطرة وبلغت 48 نصاً حملت الكثير من البوح الروحي والوجداني، وبعضها كتبت على شكل النثيرة (القصيدة النثرية) لكنها لا علاقة لها بالنصوص الشعرية النثرية، التي تعتمد على اللوحة والجرس الموسيقى عبر موسيقاها الداخلية، إضافة الى الفكرة والروح الشعرية وإن كانت تخلو من القافية والوزن، ويعتبرها معظم النقاد نص هجين يمازج بين النثر والشعر، والخواطر نصوص تعبر عما يجول بالخاطر ويتم تفريغها مكتوبة وعادة تخضع للتدقيق والتغيير قبل النشر، بعكس الشذرات التي تكتب وتنشر مباشرة وخاصة على وسائل التواصل، والخاطرة كبعض من الأساليب الأدبية لم تحظَ بالاهتمام كثيرا من النقاد بعكس الاساليب الأخرى كالقصة والرواية والشعر، واعتبر البعض اللجوء لكتابة الخواطر وسيلة للهروب من النقد الأدبي، كون الخاطرة كأسلوب للكتابة تضيع بين النثر والشعر رغم انها عرفت منذ اوائل القرن العشرين، والقليل من اهتموا بنقد الخاطرة او وضع القواعد لها، والبعض اعتبرها ليس أكثر من انفعال وقتي وليد لحظته تم التعبير عنها بكلمات مكتوبة بتأثرات وجدانية، ولا توجد لها قواعد محددة فقد تكون قصيرة او متوسطة أو طويلة.
الغريب أن الكاتبة ميرنا بدأت خواطرها بنص حمل عنوان: “حديث الروح” ولكن هذا النص أتى على لسان ذكر وليس على لسان أنثى، وهذا يعيدني للاهداء وهو أيضا أحد الشذرات، فهل ما زالت ترى أن ذلك الرجل الذي وصفته أنه شرب رحيق امرأة أحبته.. ثم غادر، ما زال يحتفظ بمشاعره؟ أم هذا نوع من التعويض النفسي لسيدة النصوص بعدم الاستسلام للفراق والهزيمة؟ هي تساؤلات لا بد منها من حجم المشاعر التي صيغت على لسان الرجل ويخاطب بها الأنثى كما قوله في آخر النص: “فظمئي اليك يا فاتنة، أعذب من لحن عزفته الريح في ليلة ساكنة”، وفي نص “ابتسامة” أيضا على لسان الذكر يخاطب الأنثى: “سأحتفظ بك ابتسامة”، وهذه المخاطبات التي ترد على لسان الذكر تتكرر كثيرا كما في نص: “تفاصيل” وبمشاعر مختلفة: “أنني سلبتك القوة لتعشقي من جديد”، وفي نص: “اختلاف” حيث يصف تلك الأنثى: “مختلفة بكل تفاصيلها”، وحين يحاول في نص: “مصيبة” أن يبرر انسحابه من حياة تلك الأنثى بالقول: “انسحابي كان نصرا لأنوثتك”، فلربما كان هذه الانسحاب مرتبط أنها “امرأة غيور” كما عنوان نص آخر على لسان الذكر، وهذه النصوص على لسان الذكر تؤكد مشاعر عشق كما في نصوص متعددة مثل: “حفيدة ستناي..” و”أحاديث نيسان” و”ضيف”، ونصوص أخرى منها: عشق/ خذلان / جرأة/ سلوى / سياحة/ إبحار /إشارة/ حلم/ عطر/ رحيل/ إستكانة / إمرأة شتوية / لولا / نيسان / القصة الأعذب..
أم أن هذه النصوص الذكرية هو حلم تحياه سيدة النصوص أو محاولات تبرير للفراق في هذا النص وفي نصوص أخرى مثل “برهة” حين “تمنت لو أن الحلم بات حقيقة ولو.. لبرهة”، وفي نص: “خطوط وجهه” حين تحلم أنها : “تزوره بين الحين والآخر كطيف يلتصق بروحه”، وفي نص: “ميرنانسي..” حين تقول: “هات عنك قيدا يدميك، ويدميني وخذ قلبا سيكون لك مدينة”، ويتكرر ذلك في نص: “مواسم الكرز”.
في نصها أو خاطرتها القصيرة “حبة سكر” والتي أعطت الكتاب عنوانه كانت تقول: “جرحتني حبة سكر”، فهل كان الكتاب بأكمله نزيف الجرح والوجع من حبة السكر رغم حلاوتها؟ وهذا الاحساس بالجرح يتكرر في النصوص بشكل عام فنراه في نص: “لم تكن إلا” حيث ترى انها تمر في: “دروب تتآكل بين الذاكرة والنسيان”، ونرى الوجع مرات أخرى وخاصة في النص الأخير من الكتاب “وجع معجون بالياسمين”، وفي: “حكايات ليل” حيث المعاناة تتجلى في: “ليل لا قمر فيه، ينذر بظلام حالك”، ونرى هذه المعاناة بنماذج مختلفة مثل: هسيس/ ربطة عنق /عهد /عاشقة / رداء / عزف / إرتواء / وشاح/ هدية/ أسئلة..
الزمان الذي ولى لا يفارق نصوص الكتاب كما في نص “غمزة” وفي نص “حكايات العين”، وكذلك الألم نجده يتكرر بالنصوص كما نص: “عاقر”، وفي نص: “ماء الوجد” حيث محاولة التغلب على الألم من خلال الكتابة وبالتالي التفريغ النفسي، وهذا ما نراه أيضا في نص: “جمال لايشيخ” حيث ترى “أن الشعر كالسحر” ترى أنه: “يملأ الأماكن المهملة بشيء من الذاكرة”، في محاولة لكي يملأ الروح التي عانت كما نرى في نصوص الكتاب لأنه: “يسكن حيث الفراغات التي تخلفها التجارب القاسية”، فهي ترى بعد كل هذه المعاناة أن الشعر وحده من يمكنه أن: “يملؤها نورا، زهرا، شغفا، بنفسجا، يملؤها جمالا لا يشيخ”، علما أنها في نصها: “شاعر” ترى أنها: “ساذجة من تعتقد أنها ستكون الأخيرة في حياة رجل يعشق الكتابة والشعر”، ومع هذا فهي ترى انها متفردة من بين كل النساء في نص “امرأة واحدة”.
في النهاية أرى أن الكاتبة والسيدة الرقيقة ميرنا تمكنت عبر هذه “اليوميات” وعبر جرحها من حبة السكر أن تحمل القارئ في فضاءات من أحاسيس مختلفة، أحاسيس نفس انسانية تعاني وعانت، ما بين هو وهي، من خلال جمال الأسلوب ورقة اللغة وجمالها، وهذا يبشر بميلاد كاتبة بحلاوة حبة السكر قد ترفد عالم الكتابة الجميل بكتب تقرأ بمتعة وتحليق تتمازج فيها الروح وتنصهر بأساليب أدبية مختلفة، لكن الأصل فيها هو هذا الكم الجميل من المشاعر الإنسانية كما حبة سكر.