انحدار

عبد الغني المخلافي | اليمن

المدينة التي كانت تسلب ألباب زائريها بفتنتها وتتملك أفئدتهم من أول زيارة. ولا يفتأون أن يكونوا  عاشقينَ مولهينَ بها بدتْ غريبة لي وبدوتُ أشبه بغريبٍ في أرجائها يتخبط. 

لا شيء يشي بالحياة الآمنة . الموت يحاذيك. في أي لحظة قد يقطع مسارك وتكون واحداً من ضحاياه. 

بعد غياب قسري هبطتُ على أرضها عبر طريق جبليٍ وعرٍ وطويلٍ. محملًا بالكثير من اللهفة والشجن . 

كان علي- بعد ترددي وانتظاري تخطي المخاوف والموانع التي فرضتها شريعة الحرب. 

منذ حنين وأنا أتحين فرصة الولوج إلى أحضانها . 

ثمة أحبة وأصدقاء ومواطن و ذكريات جعلتني  رغم كل العوائق أتعدى دائرة مكوثي المتاخم لمداخلها المسدودة  . 

ها أنا بخطواتي الوئيدة أمر وسط دمارها وموتها  وفوضاها المستشرية على امتداد جسدها المشوه . أتصفح عبثيتها الواضحة بهلع أتلفت هنا وهناك بين جوانبها لا أجد إلا ما يثير في قلبي الرهبة.

المسلحون يسرحون ويمرحون في شوارعها ووسط أزقتها وأسواقها المكتظة بالقمامة. المتراكمة على أرصفتها  لا أحد من أهلها يعبأ أو يتأفف. لم يعد بذلك الرقي أبناؤها .

خلعت عليهم سنوات الحرب سلوكيات متوحشة  وكأنك في غابة . لياليها مرعبة . مسكونة بالحذر والتوجس. 

عشرة أيام فيها لي مضت ثقيلة وسريعة في آنٍ واحدٍ.

بلا شك كانت ممتلئة بحفاوة الأصدقاء وكرمهم وصحبتهم الحميمة. استطعت الالتقاء بأصدقاء كنتُ إلى رؤيتهم في غاية الشوق وهم أيضًا في شغف كانوا إلى لقائي. استرقنا في القرب رغم أنف الحرب وظروفها الصعبة لحظات ممتعة . أقدم لهم فيض شكري وامتناني على ما لمسته من حفاوة ومحبة.

صديقي الشاعر الذي وجدته بعد صداقة افتراضية طويلة. أكثر نبلًا وكرمًا عند زيارتي له في منزله الكائن على خطوط النار. هالني ماشاهدته من دمارٍ وآثارٍ مفزعةٍ تركتها الحرب على تلك المساحة الجميلة من حيث الموقع والتضاريس  والطبيعة الخلابة. 

تسع ليالٍ دون نوم هادئ. قَضَّتْ – على مآلها الآلام والحسرات مضاجعي . 

كان عليّ – أمام جراحها العميقة أن أكتب ما أحسسته . قلمي بدا عاجزًا وكلماتي متعثرة واقدرتي معدومة. كيف أصف بإنصاف كل هذا الخراب . كل هذا الألم . كل هذا العبث. كل هذا الانقلاب في الحال والمآل دون مزايدة أو أجحاف أو تضليل. 

هذه المدينة التي كانت نواة للمدنية والحداثة ها هي اليوم تنحدر إلى قاع التوحش والتخلف والفوضى وكأنها بمدينة أخرى بُدلتْ. 

انمحت وأمست مدينة أشباح 

يسودها الدم والصراع بلا هدف عدا الجرم المشهود والابتزاز والارتزاق على قوت الضعفاء والمساكين . 

لا همّ للمتنفذين عليها إلا أنفسهم ومراكزهم وجيوبهم .

من أين – إلى قاعها هبطوا هؤلاء الضباع ؟ . وكيف – هذه الأفكار الشاذة استحلتْ جمجمة رأسها الواعية؟ .

أين شبابها النير المثقف الطليعي؟ . 

أين حسها المرهف وقلبها النابض بالفن والجمال ومسؤوليتها الوطنية المعهودة ؟ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى