مدن الموتى في ديار الإسلام
سيد خاطر | الأزهر الشريف
لم تهتم حضارة بموتاها كم اهتمت الحضارة الإسلامية والأمر لم يقتصر على الموت وأحكامه من غسل وتكفين وصلاة على المتوفى وطقوس دينية أخرى بل تعدى إلى الاحتفاء بأماكن دفنهم التى سيقضون فيها حياتهم البرزخية وإذا كان البقيع بالمدينة هو أول مدينة موتى إسلامية مقدسة فإن صحراء المماليك بالقاهرة المعروفة بالقرافة كانت هى النموذج الأوسع لمفهوم مدن الموتى إذا ضمت بين حدودها مقابر الصالح والطالح، الأولياء والاشقياء ولم تبخل المدنية على المجاهيل فافسحت لهم فيها مساحات أخذت مقابرهم داخلها شكل بيوتهم الدنيوية التى اتسمت بالبساطة لتتباين عن مقابر الملوك وذوى الشوكة من علية القوم فكانت مدن الموتى مدن دنيا وتمسك أصحاب الرفات فيها بالطبقية حتى وهم أجداث بالية .
ومن هنا جاءت المؤلفات التى تحدث فيها علماء الطوبوغرافية التاريخية على مدن الموتى فافردوا لها كتباً أخذت حيزا في مكتبة التاريخ الإسلامي.
ويرتبط بكتب الخطط كتب الزّيارات؛ والتي تعد مؤلفات ذات طابع طبوغرافي تدل المتقين والورعين على الأماكن التي قُبر فيها الصحابة والصالحون والبقاع التي يستجاب عندها الدعاء، وتوضح لهم كيفية زيارتها ومن أين تبدأ الزّيارة وأين تنتهي. ويتخلل ذلك وصف طبوغرافي للقرافة أو المواضع التي بها مشاهد هؤلاء الصالحين ، وبلغ عدد هذه المؤلفات تقريباً واحدًا وعشرين مؤلفا فُقد القسم الأكبر منها، وأهم ما وصل إلينا منها: “مرشد الزوار إلى قبور الأبرار”، المعروف أيضًا بـ”الدر المنظم في زيارة (أو فضل) الجبل المقطم” أو “الدر المنثور في زيارة القبور”، للموفق أبي القاسم عبد الرحمن الأنصاري السعدي الشارعي المعروف بالموفق بن عثمان المتوفى سنة 615هـ/1218م، ثم كتاب “مصباح الدياجي وغوث الراجي وكهف اللاجي”، لمجد الدين محمد بن عبد الله الناسخ المعروف بابن عين الفضلاء وبابن الناسخ المتوفى بعد سنة 696هـ/1297م.
أما أهم كتب الزيارات فهو كتاب “الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة في القرافتين الكبرى والصغرى”، لشمس الدين محمد بن محمد ابن الزيات المتوفى سنة 814هـ/1412م، ثم جاء بعده نور الدين علي بن أحمد السخاوي (من علماء القرن العاشر الهجري) ووضع كتابه “تحفة الأحباب وبُغية الطلاب في الخطط والمزارات والتراجم والبقاع المباركات”، والذي سار فيه على درب ابن الزيات في توزيع مادته واستدرك عليه في بعض مواضعه، وفى مقدمة الكتاب يتحدث عن زيارة القبور ومشروعيتها التى قامت على كثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ومنها قوله (زوروا القبور فإنها تذكرة الآخرة) ومنها الحديث الطويل الذى يتحدث فيه النبى عن موسى عليه السلام وقصته مع ملك الموت والتى أنتهت بموت موسى بالأرض المقدسة (فلسطين) ومعرفة النبى بمكان قبره وتمنيه إن كان هناك مع صحابته ليريهم قبر موسى عليه السلام ، فيقول النبى موجها كلامه لصحابته : لو كنت ثم لأريتكم قبره جانب الطريق عند الكثيب الأحمر .
والمتتبع لاتساع مدن الموتى في ديار الإسلام يجدها تنمو باطراد كبير وفي اتجاهات متعددة إذ من خصائص عمارتنا أن بعض القبور ألحقت بالمساجد والمدارس والقباب الخاصة التى تبنى دوماً لذوى الشأن من أهل السيف والسلطان .
ومع العدد الكبير كان لابد من تخصيص أماكن واسعة لتكون مقابر فبنيت بعضها بالمطرية ثم عين شمس خارج أسوار القاهرة ثم صحراء المماليك بالقاهرة وأول من ترك تلك المساحة ولم يعد يمارس فيها حروبه ومنازلاته كان الناصر محمد بن قلاوون عام سبعمائة وعشرين فقد كان هناك براح كبير ما بين قلعة الجبل وقبة النصر تحت الجبل الأحمر وكانت تعرف باسم ميدان القبق وميدان العيد فترك الناصر النزول للميدان وهجره خشية على قبور المسلمين من أن توطأ ثم أخذ الناس في العمارة .
فلله در الناصر محمد بن قلاوون الذى خشى على مقابر المسلمين من أن تُوطأ.
طقوس الزيارة والقائمين عليها
على الرغم من أن زيارة المقابر عادة ما كانت بشكل فردى إلا أنه قد قامت محاولات لحشد الناس لجعل الزيارات تأخذ شكل المواكب الجماعية بأوقات محددة سلفاً فانظر إلى المقريزي وهو يحدثنا عن مواعيد الزيارات وخط سيرها :
اعلم أن زيارة القرافة كانت أولا يوم الأربعاء ثم صارت يوم ليلة الجمعة وانا زيارة السبت فقيل أنها قديمة وقبل متأخرة ، وأول من زار يوم الاربعاء وابتدأ بالزيارة من مشهد السيدة نفيسة الشيخ صالح أبو محمد عبدالله بن رافع بن يزحم بن رافع السارعى الشافعى المغافرى الزوار المعروف بعابد مولده إحدى وستين وخمسمائة ( ١١٦٥م) ووفاته بالهلالية خارج باب زويلة سنة ثمان وثلاثين وستمائة ( ١٢٤٠- ١٢٤١م ) ودفن بسفح المقطم على تربة بنى نهار بحرى تربة الردينى .
وأول من زار ليلة الجمعة الشيخ الصالح المقرى أبو الحسن علي بن أحمد بن جوشن المعروف بابن الجباس والد شرف الدين محمد بن علي بن أحمد بن الجباس فجمع الناس وزار بهم في ليلة الجمعة كل اسبوع وزار معه في بعض الليالي السلطان الملك الكامل …ومشى معه أكابر العلماء وحكى الموفق بن عثمان عن القضاعى أنه كان يحث على زيارة سبعة قبور .
ويورد المقريزي قائمة بقبور سبعة مشايخ هم : الدينورى وعبدالصمد البغدادي والمزنى والقاضي المفضل ابن فضالة والقمنى وذو النون والقاضي بكار بن قتيبة .
ويورد المقريزي أيضاً قائمتين أخريين تقترح كلا منهما سبعة أُخر .
ومما سبق يتضح أن الزيارة كان لها شأن عظيم يتولها العلماء برعاية السلطان .
وذكر نيل دى ماكنزى في كتابه القاهرة الأيوبية أن الزيارة كان لها نقيب للزوار وشيوخ للزيارة وصاحب شرطة القرافة .
وعلى مدار تاريخ مصر الإسلامية كانت القرافة موضع عناية حكامها ومكان تبرك أولياءها و محط رحال الوافدين عليها ، وإذا ذهبنا نستقصى نصوص من كتبوا عن زيارتهم للقرافة لم نستطع جمعها لكثرتها ويكفينا الإشارة إلى اثنين من كبار رحالة العصور الوسطى فانظر إلى ابن جبير يقول :
وفى ليلة اليوم المذكور ( الأربعاء ١١ذو الحجة ٥٧٨هـ / ٨ابريل ١١٨٣م ) بتنا بالجبانة المعروفة بالقرافة وهى أيضا إحدى عجائب الدنيا لما تحتوى عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم وأهل البيت رضوان الله عليهم والصحابة والتابعين والعلماء والزهاد والأولياء ذوى الكرامات الشهيرة والانباء الغريبة .
واسماء أصحاب هذه المشاهد المباركة إنما تلقيناها من التواريخ الثابتة عليها مع تواتر الأخبار بصحة ذلك والله أعلم بها وعلى كل واحد منها بناء حفيل فهى بأسرها روضات بديعة الاتقان عجيبة البنيان قد وُكِل بها قَومة يسكنون فيها ويحفظونها ومنظرها منظر عجيب والجرايات متصلة لقومها في كل شهر ……انتهى كلام ابن جبير
ولننظر ما قال علامة الأماكن ياقوت :
القرافة هى جبانة أهل مصر وفيها مبان رائعة ومحال واسعة بسوق عظيمة وبها مشاهد أولياء وترب قواد مثل ابن طولون ……شاهدة على الجلال والعظمة .
وفيها قبر الإمام الشافعي في مدرسة لفقهاء الشافعية وهى من متنزهات أهل القاهرة و مصر خاصة ايام الأعياد .
هكذا كانت مدن الموتى في ديارنا دنيا لما تشتمل عليه من حركة أحياء حول الأموات فبين قبور الموتى كانت تقام الصلوات والأذكار والمعاملات من بيع وشراء والاحتفالات من طرب وغناء .
بارك الله في عمرك يا استاذنا