الهيمنة على الحشائش في فلسطين: الاستشراق وقتل الجذور
نداء يونس | فلسطين
الفضاء البصري لكتاب ومعرض الهيمنة على الحشائش الذي تصدره وتنظمه مؤسسة القطان بمشاركة نخبة من الباحثين والفنانين الفلسطينيين يعيدنا إلى الحقبة المتأخرة لفترة الانتداب البريطاني على فلسطين (قبل النكبة) وما رافقها من سياسات لتمهيد المكان الفلسطيني لعملية إحلال طويلة الأمد تقوم على المحو والاستلاب واستبدال مكونات الهوية الفلسطينية لتمكين مشروع الاستلاب الاحتلالي من خلال الهيمنة على بيئة فلسطين وتطبيعها.
الجهد البحثي المؤسس للكتاب الذي يصدر في طبعة فاخرة ملونة في 546 صفحة – والمعرض الفني المرافق له والذي يوظف الجماليات البصرية والتقنيات الرقمية – يعرض لنماذج من 45 مراسلة مع وزارة الزراعة والثروة السمكية في بريطانيا من جميع المناطق في عموم فلسطين (المستعمرات الإسرائيلية التي انتشرت آنذاك تحت رعاية الانتداب).
تمثل هذه الوثائق جزءًا من “مراسلات الأرشيف البريطاني: “وتكشف كما يتضح من المراسلة التي تم اختيارها افتتاحية للكتاب وتعود للعام 1940 بين ممثل منظمة مزارعي المحاصيل الحقلية ومقرها مستعمرة “رمات يوحنان” ج. يانوفسكي وكبير الموظفين الزراعيين في وزارة الزراعة والثروة السمكية في بريطانيا السيد ماسون عن تنظيم معرض متنقل شمل كافة المستعمرات اليهودية في حينه وعرض ما سمي بالأعشاب الضارة مع شرح صوتي مرافق، فيما كشفت مراسلات لاحقة عن قائمة بـ 30 نوعا من اهم الأعشاب في فلسطين قبل وبعد النكبة “مستهدفة بالإبادة”.
وتكشف مراسلات أخرى عن أنواع المبيدات التي استخدمتها سلطات الانتداب والمستعمرون الجدد في إبادتها، حملت بعضها عناوين مثل “نباتات سامة” و”مطار حيفا- إبادة الأعشاب الضارة” وغير ذلك.
كانت هذه النباتات الطبيعة قد ارتبطت بذاكرة الفلسطينيين واستخداماتهم الطبية والفلكلورية وبالأسطورة والخرافة وحتى السحر والشعوذة والتغذية وطرد الحشرات والاستخدامات الجمالية كما شكلت جزءًا من التنوع المرتبط بالفلسطيني وحياته وذاكرته ووجوده، إلخ،
وتنوعت الأعمال الفنية المقدمة بين البساطة اللافتة والاشتغال المتعدد الرؤى والتقديم مثل الجدارية المزدوجة للفنان نبيل عناني، بينما مثل مشروع تأصيل حكاية الحشائش الفلسطينية الخطابي من خلال اللغة للفنان علاء أبو أسعد واحدا من أكثر مشروعات المعرض الفنية إثارة للاهتمام حيث رصد الفنان مجموع (الكلمات والصفات المجمعة سالبة الشحنة) التي قدمت كخطاب استشراقي ضد بذور الحشائش الفلسطينية.
مثلت هذه المفردات الإقصائية ليس فقط صوت النظام القمعي واللغة التي يستخدمها لتصوير البذور والتي من خلال تكرارها تعكس جنون القوة والعنف المستخدمين لمنع وجود بذور الحشائش؛ بل تمثل خطابا استشراقيا لعينا ضد هذه الأرض ومكوناتها حيث يتتبع العمل خطابًا عنيفًا استشراقيا تنميطيا يستخدمه الاحتلال الإسرئيلي لشيطنة واستبدال ومحو الفلسطينيين.
وصفت البذور بكلمات مثل: (غير منطقي، فظ، شره، يحل محل، نتن، متلاعب، متطفل، عديم الرحمة، عنيد، قرصنة، نجس، متزاحم، واسع الانتشار، بلاء، عدائي، عفريت، غير مرغوب فيه، مشاغب، مقلق، مريض، اغتصاب جماعي، قابل لان يُقلب، إلخ). فإلى حد تختلف هذه الصفات عن الخطاب الاستشراقي في دولة الاحتلال ضد الفلسطيني!
الكتاب الذي يعد مرجعا فنيا وبيئيا وتاريخيا مهما يسحب مفهوم الهيمنة القائمة على مفاهيم استشراقية صرفة من الحقل السياسي والثقافي واللغوي والفني والمطبخ الفلسطيني، وهي مجالات ترد ذكرا لا حصرا، إلى حقل مختلف وجديد هو الحقل البيئي ويوضح كل باحث وفنان كيف تم توظيفها في إطار إعادة كتابة علاقة الإنسان الفلسطيني ببيئته وذاكرته ويضرب رمزية الحكاية والأسطورة وإقحام المكان في رواية أخرى صناعية.
يشكل المعرض والكتاب بمحتوياته واجهة لثقافة بصرية تؤصل لعملية إخضاع الأرض والمكان والذاكرة من خلال المكون البيئي وسياسات الهيمنة والاستبدال وتكشف عن أوجه متعددة لخطاب استشراقي مرعب الدلالة والاقتحام لتفاصيل وجود الفلسطيني في أرضه وعن آليات عمل الهيمنة في تغيير هوية المكان لصناعة واقع جديد يحول الطبيعي إلى شذرة في كولاج بصري ومعرفي متناقض وفاعل