اكتشاف الحب: أوراق من مدونتي الشخصية (9)

مروان ياسين الدليمي | العراق

 

                         البحث عن مستشفى الجامعة الأميركية

كنت مشوش الذهن قبل يومين من موعد سفرنا إلى بيروت، لأني لم أكن أملك أي معلومات كافية عن مستشفى الجامعة الأميركية تزيح عني الشك بمصداقيتها وتجعلني لا أحسبها ضمن عديد المؤسسات الصحية في المنطقة العربية التي اصبحت مجرد اسفنجة لامتصاص أموال الناس المرضى، رغم أني على دراية تامة بان علاقتنا بها لن تتعدى جهاز الفحص (PET SCAN) ، إذن لماذا هذا الافراط في التفكير والوساوس من جانبي !، ربما يعود ذاك القلق إلى أنني عندما أكون مرتبطا بموعد سفر عادة ما أسقط في اعماق حالة غير طبيعية من انعدام الوزن، سببها الانتظار، حيث أبدو فيها غير مهيأ لاتخاذ أي قرار، وفكرة السفر لوحدها دائما ما تسبب لي ارباكا شديدا لا أستطيع الإفلات منه، تفقدني القدرة على التركيز بأي موضوع،ولا أستطيع أن أنشغل حتى بالأشياء المهة التي عادة ما أكون على ارتباط يومي بها، فمثلا إذا ما حاولت القراءة فسأبقى ساعات أقرأ نفس الأسطر من غير أن أفهم منها جملة واحدة، كل شيء يبدو معلقا في الفراغ، فكيف الحال إذا كان السفر مرتبطا بقضية لا تبعث في النفس أي شعور بالفرح، وكأن الرحلة ليست إلى بيروت إنما إلى أرض مقفرة سأقف فيها وحيدا تصفعني الرياح؟، ومنذ أن طلب منا دكتور لقمان إعادة الفحص للتأكد من النقاط السوداء حتى بدأ كلانا يخمن أسوأ الاحتمالات، فليس هناك من برهان بين أيدينا يفندها،وإلاَّ لماذا هذا الإصرار من قِبله على إعادة الفحص لو لم يكن هناك لديه مايبعث على الشك؟

أوغَلَ كلانا في تخمينات مبتورة تبحث عن إجابات، كل واحد منّا على انفراد ، وتوارينا خلف شطحات مخيلتنا دون أن نصل إلى باب مفتوح .

أغلب  الأطباء لهم عالمهم الذي لانستطيع أن نفهمه، ولا يسمحون لنا أن نفهم مايدور في رأسهم من أفكار، فنحن دائما تحت رحمتهم، شئنا ذلك أم أبينا، وعلينا أن نسلم بما يقولونه، لأننا لا نفهم ما يفهمونه، ولا نقوى على مجادلتهم، لأنهم يعروفون عنّا أكثر بكثير مما نعرف عن أجسادنا، ويرون ما لا نراه ولا ندركه، وأحيانا لديهم ما يكفي من العلم لتخمين الفترة المتبقية لنا على هذه الأرض. فالأجهزة التي يتعاملون معها أصبحت قادرة على أن تحدد لنا ما ينبغي علينا أن نفعله وما لانفعله في أيامنا القادمة، لذا علينا أن نطيعهم وننفذ ما يأمروننا به، وإذا ما عاندنا ما يطلبونه منا فسنبقى تحت طائلة الخوف لأننا لم نلتزم بإرشاداتهم.

محاولة إبعاد مثل هذه الهواجس عن تفكيري شغلتني كثيرا، لأنها على وشك أن تكبلني بحبالها المشدودة الى بؤرة من المخاوف، بينما بيروت لديها كلام الفصل، وهي لا تبعد سوى مسافة ساعتين من الطيران المتواصل وعندها سينتهي هذا الدّوي في الرأس، وتصبح كل الأشياء واضحة، ولم يعد هناك من خلل في نظام الكون، ولكن لاجدوى، فالهروب من غلبة الوساوس غير مجد ٍ أحيانا خاصة إذا كانت متعلقة بحياة إنسان بينك وبينه ذرات هواء تتنفسانها معاً.

وكلما حاولتُ أن اطردها من ذهني وأتعلق بفكرة متفائلة أفشل في محاولتي، كما لو أنها لعبة الأفعى والدرج، ولم أجد سبيلا للخروج من هذه الوساوس سوى الاتصال بالزميلة المهندسة التي سبق أن أصيبت بنفس المرض وذهَبَت إلى لبنان للعلاج قبل عدة أعوام، وهي الآن حسب ما وصلني من معلومات في حالة صحية مستقرة.

وقبل ان اشرع في الاتصال بها، بينما كنت جالسا في صالة الاستقبال على الكنبة، رفعت رأسي قليلا ونظرت إلى الساعة المعلقة على الجدار، وكانت تشير إلى السابعة مساء، عندها وجدت  بأن الوقت أمسى ملائما لإجراء مكالمة هاتفية، فأغلب العراقيين في أشهر الصيف يحرصون على أن يأخذوا قسطا من النوم عندما تشتد الحرارة بعد الظهر، ونحن الآن في الأيام الأولى من شهر حزيران وعادة ما يستيقظ النائمون في مثل هذه الساعة، ويكونوا بامس الحاجة لاحتساء قدح من الشاي حتى يفيقوا من سطوة النوم الثقيل الذي عادة مايكبس على الإنسان في هذا الوقت من النهار. وقبل أن اتصل بها كنت أرجو في داخلي أن اسمع منها كلاما يبعث على الاطمئنان، لأنني لم أكن أتحمل سماع المزيد من الأخبار المتعبة.

                          الاتصال بزميلة ناجية من المرض

بحثت عن اسمها بين عشرات الأسماء المخزونة في ذاكرة الهاتف، وكنت أخشى بيني وبين نفسي من أن لاترد على المكالمة، فهذه أول مرة اتصل بها بعد أن أخذت أجازة مفتوحة من القناة الفضائية قبل ثمانية أعوام على أثر إصابتها بالمرض وغادرت أربيل عائدة إلى مسقط رأسها  في قرية تابعة لمدينة دهوك.

ومثلما توقَّعت بقيت نغمة الهاتف ترن وأنا انتظر الرد ولكن ما من  رد،عندها وجدت ان من الافضل ان اكتب لها رسالة نصيّة لكي تطمئن من بعد ان تتعرف على اسمي وعلى سبب الاتصال،فكتبت لها “ارجو ان تكوني بخير ، انا المخرج مروان ياسين زميلك في العمل،قبل قليل اتصلت بكِ،لاني اود ان احصل على بعض المعلومات المهمة عن المستشفى الخاص بالجامعة الاميركية،لانك حسبما افترض قد وصلتك معلومة من الزميلة فرقد ملكو بأن زوجتي قد اصيبت بنفس الحالة التي سبق ان مررتِ بها ،واننا نعتزم السفر الى بيروت بعد غد على الاكثر، لذا احيطك علما باني ساتصل بك بعد قليل للاستفسار عن  بعض المعلومات ” . ثم ضغطت على اشارة الارسال .  

ساد صمت للحظات،قبل ان ترن نغمة هاتفي الجوال،نظرت الى الشاشة ،فوجدت اسمها.

لم تبخل علي باي معلومات،وقدَّمت شرحا وافيا عن مستوى الخدمات الممتازة في المستشفى إلاَّ انها اقرت بانها مكلفة جدا، وليس بامكان جميع الناس ان يتحملوها،ولكن ليس باليد حيلة طالما لم يكن العلاج في  حينه متوفرا في اربيل والعراق عامة ،فلا الكيميائي متوفر ولا اشعة الليزر،واقترحت عليَّ بان اراجع نفس الطبيب الذي سبق ان عالجها هناك،وعلمت منها بانها بعد اسبوع من اجراء العملية الجراحية في اربيل،كانت قد سافرت الى بيروت وبقيت هناك لمدة تزيد عن  سنة كاملة وستة اشهر،لانها كانت مضطرة على ان تكمل جلسات العلاج الكيميائي وعددها اثنتا عشرة جلسة،توزعت على عدد اشهر السنة،ومن بعدها احدى وعشرين جلسة علاج باشعة الليزر،في كل اسبوع جلسة واحدة.واستجابة لنصيحة الطبيب اضطرت للبقاء لمدة ثلاثة اشهر بعد العلاج لاجل ان تحظى بالراحة والهدوء،فقد اوصاها بان تحاول السير يوميا لمدة لاتقل عن ساعة من الزمن على شاطىء البحر،وان تمارس التمارين الخفيفة حتى تستعيد لياقتها وقواها الطبيعية،ثم عادت واكدت لي لو كان العلاج متوفرا مثلما هو اليوم في اربيل لما اختارت البقاء في بيروت وتحملت اعباء مالية كبيرة.

شعَرت زوجتي باطمئنان كبير على اثر المكالمة التلفونية،وانا ايضا خرجت من هوّة ماكنتُ عليه من افكار اخذت بي الى منحدر لانهاية له،خاصة بعد ان وجدنا ان الحالة النفسية التي كانت عليها الزميلة المهندسة لاتشير الى انها كانت تعاني من اي اثار سلبية نتيجة للمرض او العلاج،فصوتها وحيويتها اثنا حديثها  كانا يبعثان على الاحساس بالتدفق وبانها كانت مغمورة بسعادة حقيقية،فقد مضى عليها اكثر من ثمان سنوات بعد اصابتها واجرائها للعملية الجراحية،ومما عمق لدينا الاحساس بهذا الشعور عندما اكدت لنا بانها قد انهت كافة مراحل العلاج،بما في ذلك حبوب التوماكسوفين التي بقيت تتناولها لمدة خمسة اعوام يوميا،وبين فترة واخرى تحرص على ان تجري فحوصات دورية،وكلها اشارت الى ان وضعها بات  طبيعياومطمئنا.

بعد انتهاء المكالمة تنهدت زوجتي تعبيرا عن شعورها بالراحة،لانني كنت قد تعمّدت ان افتح سماعة الهاتف حتى تستمع بنفسها،ولايبقى لديها شك من ان الشفاء ممكن جدا وليس امرا بعيد المنال.

 

                                       للكلمة سحرها

يحتاج الانسان الى قشة يتعلق بها ليخرج من عتمة الشعور بالياس إذا ما احاطه من كل الجهات وسد عليه منافذ النور،وربما كلمة يلتقطها بشكل عابر وهو يسير سادرا في لجّة الاصوات التي تحاصره،وتمنعه من سماع ما يشعر به في اعماق روحه،فيكون لهذه الكلمة فعل السحر الذي يعجز عنه الحكماء،وربما تصدر عن  شخص لايخطر على البال،وليس بالضرورة ان يكون هذا الشخص متعلما او ذو مكانة،وربما لم يقصدها هو ايضا،لكنها صدرت عنه في لحظة عفوية ،وقد يستهلك طالب علم ومعرفة سنين طويلة في التأمل ولن يصل الى جوهر ما توصل اليه من حكمة انسان يعيش على هامش الحياة .فإذا ما اردنا ان نتجتازعتمة الجهل بالاشياءونخرج من هلوسات الافكار الهشة والضبابية نحتاج الى ان نفتح نوافذ عقولنا ونبقيها مشرعة على جميع الجهات،فالوصول الى شاطىء الامان لايمر عبر طريق واحد .

 

                                  ولَدي اصبح رجلاً

في صباح اليوم التالي  نهضتُ مبكراً واخرجت جوازات السفرالخاصة بنا نحن الثلاثة من الخزانة حتى اضعها  في داخل حقيبة جلدية صغيرة،لاني عزمت على ان اتجه الى  مكتب لحجز تذاكر الطيران يقع في ناحية عنكاوا،ومن ثم اذهب من بعدها الى عملي في القناة.

بعد ان انتهيت من تناول الفطور على عجل،اتجهت الى غرفة النوم حتى اغير ملابسي،فإذا بولدي  يقف عند الباب ويخبرني بانه لن ياتي معنا الى لبنان،وانه يفضل البقاء في  البيت،ولمَّا طلبت منه ان يوضح لي الاسباب كان جوابه واضحا “انتما ذاهبان لغرض العلاج،وبحاجة ماسة الى اصغر عملة نقدية بسبب ارتفاع تكاليف العلاج،لذا ليس هناك سبب معقول يرغمني على السفر معكما،كما انني سأبقى هنا لحراسة البيت” .

فشلت كل محاولاتي معه لكي يعدل عن موقفه،لاننا ماكنا نريد ان نبقى مشغولي البال عليه بينما هو باق لوحده في البيت،وبقدر ما احالني موقفه الى ان اكون في حيرة من امري الاَّ انني في اعماقي شعرت بشيء من الفخر ،إذ لم اكن اتوقع ان ترتفع لديه روح المسؤولية الى هذه الدرجة،رغم انه لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، وكان قد انتهى توا من امتحانات البكالوريا،حينها ادركت بان السنين تحرق اعمارنا ونحن غافلون عنها،وعلى مايبدو فأنني قد وصلت الى المحطة التي لم تكن تخطر على بالي اني ساصلها بوقت مبكر، فقد اصبح ولدي رجلا يعبر عن رايه ويتمسك به بينما في نظري مايزال طفلا يحبو،وهذا ما يدفعني الى ان اقاضي رايه بالامتثال له طائعا،ورغم اني ما كنت مرتاحا لبقائه وحده في البيت إذا ما سافرنا،إلا ان سعادتي به كانت كبيرة بعد ان وجدته وقد اصبح على اعتاب ان يصبح رجلا يُعتمد عليه في تحمل المسؤولية.

هاهي اذن علامات الزمن تفرض حضورها واضحة مثل بقية الاشياء التي اواجهها يوميا،وما من مجال لتفادي هذا التغيير،مثلما من غير الممكن ان لااسمع صوت الباعة الجوالين وهم ينادون على بضائعهم يوميا او ان تتفادى انسكاب خيوط الشمس الساخنة وانا امشي في شوارع  العراق.

هكذا تصر الحياة على ان تذكرنا بين فترة واخرى عبر اشارة منها باننا قد استهلكنا سنينا من اعمارنا التي باتت تتراصف خلفنا في دفتر الذكريات،بينما مازلنا في داخلنا نشعر وكأننا لم نغادر اجمل فترة من اعمارنا،ونعاند انفسنا ،فلانريد لها ان تُطوى،ربما لان اغلبنا لم يعش حياته كما كان يحلم،ومازال الكثير من احلامه ينبثق مثل ينبوع في داخله يغذي عطشه الى الحياة رغم انكشاف البياض في  شعر رأسه .

 

                                  في مكتب الحجز للطيران

وصلت مبكرا صباح يوم الاحد الى مكتب الحجز الانيق الذي يقع في الشارع الرئيس لناحية عنكاوا على الطريق المؤدي الى مقر عملي في القناة الفضائية،ولم يكن اختياري له عن طريق  الصدفة،انما كنت قاصدا التعامل معه لان صاحب المكتب سبق له ان عمل معنا محررا للاخبار قبل ان يستقيل ويفتتح هذا المشروع. وما أن دخلت سألت عنه الموظفة الشابة التي كانت لوحدها جالسة خلف مكتبها، فاخبرتني بانه قد سافر الى  بودابست في رحلة عمل لعدة ايام.

جلست على كرسي الى جانب مكتبها وطلبت منها ان تحجز لي تذكرتين، ذهابا وايابا الى بيروت يوم الثلاثاء القادم،مع حجز بفندق قريب جدا من مستشفى الجامعة الاميركية.عندها اطلعتني عبر الانترنت على خارطة الفنادق التي تقع في المنطقة المحيطة بالمستشفى واشارت الى واحد منها،وكان الاقرب الى مبنى المستشفى . وبعد ان أنتهيت من الحجز حتى اتجهت الى مبنى القناة الفضائية،الذي يبعد مسافة خمس دقائق مشيا على الاقدام، لاجل ان احيط الادارة علما بموضوع السفر واقدِّم بناء على ذلك طلبا رسميا للموافقة على منحي اجازة لمدة اسبوعين حتى لو بدون راتب إذا كان هناك مايمنع ذلك .

كانت الساعة تشير الى العاشرة صباحا وشمس حزيران مصرة على ان تنزل مثل السياط على الرأس رغم ان الوقت مايزال مبكرا قبل ان تحل ساعات الظهيرة،حيث حرارتها تدفعنا الى ان نغمض اعيننا تلافيا لانعكاس اشعتها الساطعة وهي  تسقط على الارض. وبينما كنت اسير على الرصيف مختنقا من ندرة الهواء وانا احاول الاحتماء باي ظل لجدار يصادفني، كنت على يقين من ان اي شخص عابر لايعرفني إذا ما صادف ان انتبه الى وجودي فمن المرجح انه إذا ما خطر في باله ان يخمن عمري فسيضيف اليه عشرين عاما فوق  الرقم الحقيقي،بناء على ما كان يثقل راسي من افكار في تلك اللحظات .

 

                                خَمَدت جذوة الحب لبيروت

 موعد اقلاع الطائرة في تمام الساعة الخامسة عصرا من يوم الثلاثاء القادم ،أي بعد يومين،وإلى ان يحين هذا الموعد كانت الدقائق تمضي ثقيلة بالنسبة لي وكأنها قد  حُقنت بمخدر ولم تعد تقوى على الجريان،وكم كنت ارجو ان ينقضي الوقت سريعا مثل رمشة عين ليحين موعد السفر،ليس لاني كنت متلهفا وسعيدا بهذه الرحلة،انما لاني كنت خاضعا لسطوة الافكار التي كانت تتناهبني حول النقاط السوداء والتي لن يُكتب لها ان تغيب عن تفكيري الاّ بعد ان يحسِم حقيقتها جهاز(PET SCAN) ، ربما لو كانت الرحلة  في ظرف آخر،لتداخلت فيها مشاعر الفرح والبهجة،لانني سارى بيروت التي كنت احلم برؤيتها،مذ كنت شابا مراهقا في منتصف سبعينات القرن الماضي اتابع اخبارها عبر مايصل من لبنان يوميا من مطبوعات واصدارات حديثة الى شارع النجفي في مدينتي الموصل،حيث مكتباته العامرة بالصحف والمجلات والكتب،وكنت اجمع الفلس فوق الفلس حتى اتمكن في نهاية الاسبوع من شراء مجلة او صحيفة لبنانية لانني كنت مندهشا من انفتاح الحياة البيروتية وحداثتها وارتفاع سقف التعبير عن الحرية فيها وخاصة في الصحافة السياسية،بينما كنا نحن نعيش عصراً آخر لايتسنى للنَفَس ان يخرج منّا إلا بعد ان نتلفت يمينا و يسارا خشية ان يرصدنا المخبرون.فلم اتوقف عن شغفي برؤية البحر وشارع الحمرا والكثير من احيائها ومعالمها ومسارحها وفنانيها،حتى انني عرفت عنها اكثر مما كنت اعرفه عن بغداد،ودائما ماكنت اتسائل،هل سيُكتب لي في يوم قريب ان اقف مقابل صخرة الروشة؟ ولكن في الآخر لنا كأسنا وللدنيا كأسها،وبكل الاحوال الغلبة لها في هذا الشرق المهووس بغلق النوافذ والمنافذ والابواب. ومرت السنوات عجافا وابتلعتنا دروب الحياة وكانت كلها تؤدي الى محرقة الحروب وليس الى بيروت، ثم جاءت سنوات الحصار فإذا بنا ندور في حلقة مفرغة باتت تكبر يوما بعد آخر، الى ان حفر الزمن بمعاوله اثارا واضحة علينا،والقى بنا على رمال ساخنة اكتوت بها ارواحنا قبل اجسادنا،ولم نعد نمتلك مايكفي من العمر ولا الفضول للوصول الى ماكنا نحلم به من مدن وافاق . بدا الامر لي هكذا بينما كنت اتفقد مافي داخل الحقيبتين من ملابس وحاجات شخصية سنحتاجها خلال اقامتنا القصيرة في بيروت لمدة لاتزيد عن اسبوع،ولهذا لم اكن على تلك الحماسة التي كنت عليها قبل اربعين عاما،فقد ذوت جذوة الحب لهذه المدينة التي كانت حلما جميلا ظل يسكنني،ولم يتبق منه ما قد يبعث على الاحساس به ،كما ان بيروت لم تعد بيروت ،فقد تلفعت هي الاخرى بثياب سوداء وباتت مثل اي مدينة شرقية تدفن راسها في رمال التاريخ .

 

                                      لحظة وداع قبل السفر

كان يتوجب علينا الوصول الى مطار اربيل قبل موعد انطلاق الطائرة بساعتين على الاقل،وما أن حانت الساعة الثانية بعد الظهر حتى بدأنا في الاستعداد لمغادرة البيت،وقبل ان نحمل الحقائب شعرت وكأني بدأت افقد السيطرة على مشاعري بينما كنت احاول ان اجد كلمات مناسبة اوصي بها ولدي للحفاظ على سلامته وسلامة البيت اثناء فترة غيابنا،وضرورة ان يبقي هاتفه مفتوحا دائما. أمّا والدته فلم تستطع ان تتمالك نفسها،وانفرطت دموعها وهي تحتضنه،فاعادني هذا المشهد الى نفس اللحظات قبل شهر ،عندما كنّا نعتزم التوجه الى المستشفى لكي تجرى لها العملية الجراحية،ولكن الاختلاف بين المشهدين،ان محمد ولاول مرة سيكون بعيدا عنّا مئات الكيلومترات وهذا مالم تكن تحتمله هي مقارنة بي . وأنا اجد لها العذر اذا ما كانت تحمل له هذه العاطفة بقدر اكثر مني،فهي لاتستطيع ان تحتمل غيابه عنها إذا ما تاخر ربع ساعة عن موعد وصوله الى البيت بعد خروجه من المدرسة يوميا،لانها عانت الكثير قبل ان يُكتَبَ له الحياة من بعد ان تعرضت مرتين وبشكل متتابع لعملية اسقاط ،ومن جرائها  فَقَدْنا ما كنا ننتظره بفارغ الصبر،ففي الاسقاط الاول كان عمر الجنين قد وصل الى خمسة اشهر وفي الثاني الى اربعة اشهر،ثم شاءت ظروف غامضة لم يحصل فيها حمل لمدة اربعة اعوام،اجتهد في تفسير اسبابها عدد من الاطباء الذين راجعناهم ولكنهم لم يصلوا الى نتيجة تفضي لعلاجها،وكل واحد منهم كان له تشخيصه وتحليله ووصفاته العلاجية ولكن دون جدوى ،الى ان أطلَّ محمد متدفقا بحيوته ونشاطه فاشاع البهجة في اركان البيت،وبعث فيها الامل والاحساس بالحياة من بعد ان عبست بوجهها طيلة اربعة اعوام ولم تجد إلاّ في الدعاء والصلاة وقرأة القرآن عزاء لها،لكنها ورغم الحسرة التي كانت تكبتها في داخلها ما أن  ترى اطفالا يمرحون، لم يكن يصدر عنها اي نأمة بما يشير الى انها كانت غير راضية عن ما كتبه لها الله من قسمة،رغم انني شخصيا كنت عازما على ان يكون لي نصف دزينة من الاولاد،وبقيت محافظة على اتزانها وحكمتها وهذا ما كنت افتقده انا شخصيا،وبتلك التجربة التي عاشتها ولم تدفع ايمانها للاهتزاز،اكتشفتُ ما بيننا من فروقات في الطباع والافكار،فهي امرأة قنوعة ولايُشمُّ منها رائحة تذمر مهما ضاقت عليها صروف الدهر،بينما انا رجل جزوع ملول،وإذا ما وجَدَتني اعبِّرُ عن سخطي ازاء ما قد يصادفني من عقبات،كانت ترجوني ان اكف عن ذلك وان احمد الله على كل شيء.ومازلت حتى هذه اللحظة احسدها على هذه القناعة التي تملكها،رغم ما مرت به من اوجاع اخذت منها الكثير من صحتها،فقبل ان تصاب بسرطان الثدي كان قد داهمها فجأة مرض الروماتزم الرثوي واصاب جميع مفاصلها،ولم تكن تستطيع ان تقف على قدميها لفترة لاتزيد عن عشر دقائق،إذ كانتا تتورمان وتصبحان مثل اقدام الفيل وبقيت على هذه الحال لمدة عام كامل،وفشلت كل الادوية في الحد من تمدده،الا بعد ان لجأنا الى الطب البديل، فاعتمدنا طريقة الحجامة لمدة عام كامل،حيث واصلت عليها في ايامٍ واشهرٍ معينة من السنة، ولمَّا خفَّت اوجاعها بنسبة كبيرة جدا وباتت تستطيع ان تمارس عملها في البيت بشكل طبيعي،ارتأت ان تجري فحصا في المختبر لقياس نسبة الروماتزم في جسمها،فكانت المفاجأة عندما وجدناها قد تراجعت الى 21 % وهي النسبة الطبيعية للانسان بعد ان كانت 56 %  لكن الروماتزم لم يشأ إلاَّ ان يترك اثرا في اصابع يديها اذ انحرفت قليلا عن استقامتها،كذلك قدمها اليمنى بدا عليها شيء من الاعوجاج،حتى انها لم تعد تسير بشكل طبيعي،وهذا مايشكو منه معظم المصابين به،ولازلت أذكر ان اصابتها بهذا المرض كانت عام 1999 بعد ولادة محمد بستة اشهر،ونتيجة للادوية التي كانت مُلزَمَةً بتناولها،نصحها الطبيب محمد طاهر رسول ،وهو اشهر الاطباء المختصين بهذا المرض في الموصل،بان لاتفكر نهائيا بالانجاب مرة اخرى.وخيّرني انا شخصيا ما بين الحفاظ على حياتها او التفكير بطفل آخر،فأخترتها هي .

يتبع ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى