مواضع التقاء واختلاف الجماعات الصوفية و السلفية

د. يوسف زيدان | الإسكندرية

لجأ المخيال الشعبى، تحت وطأة الواقع المرير المقترن بشيوع الجهل والتعلق بالرغبة فى الخلاص، للهرب من حُكم الحال، بالتعلُّق بالأمل المستحيل، عبر الإغراق فى الحلم والاستمساك بفكرة المخلِّص (الذى لا يخلِّص) المتمثل فى الشيخ.. الولىِّ .. القديس.. الإمام.. الأنبا.. وغير ذلك من الألقاب والتَّسميات.

وكان الفكر المصرى، الخرافى المتمثل فى كرامات الصوفية ومعجزات القدِّيسين. هو السبيل الوحيد لضمان المصير المشرق فى الآخرة، بعد معاناة المصير المظلم فى الدنيا، ولذلك اقترنت هذه المعتقدات دوماً بقدرة «المخلِّص المتوهَّم» على العبور بمحبِّيه إلى الجنة.

فضلاً عن التعزية العامة، فى الدنيا، عند التعلُّق بهذا المخلِّص (الصوفى، الجهادى، القداسى) من خلال صورة أخرى، وهمية، يرسمها له الأتباع. بقطع النظر عن مخالفتها الصورة الفعلية التى كان عليها هؤلاء الرجال الكبار، فعلاً، وبقطع النظر عن تحذيراتهم من الغرق فى الخرافة وحديث الكرامات والمعجزات، وبقطع النظر عن عدم الجدوى.. يكفى هذا

 أصداء الخلاف بين الصوفية و السلفية

ينظر المتصوفةُ للسلفيين نظرة استعلاء (لا يرضاها التصوف) على أساس أن هؤلاء السلفيين هم أصل الظاهر، الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، بينما يتعمق المتصوفة فى (الباطن) ويتلمسون حقائق الدين بنوعٍ من (الذوق) المباشر.. وفى المقابل، يرى السلفيون أن هؤلاء المتصوفة، جهلة يطرحون رداء الشريعة ويطمسون معالم الدين بالإغراق فى الغيبيات.

وينظر السلفيون للمتصوفة، على أنهم وثنيون يعبدون القبور ويتقربون إلى الله بمدافن الأولياء، وهو فعلٌ يشابه أفعال الجاهلية الأولى، ويقارب عبادة الأصنام.. وفى المقابل، يرى المتصوفة أن السلفيين لا يفهمون شيئاً من أسرار الولاية،

ولا يفقهون إلا فى أحكام العموم (السطحية)، فلا ينفذون إلى الوسيلة المثلى للتقرب من الله عبر بوابة الشيخ أو الولىّ. وما الهدف الصوفى من الاحتفاء بقبور الأولياء، إلا الاستهداء بسيرة (أولياء الله) فى المسيرة الروحية العارجة من الأرض إلى السماء.

وينظر المتصوفةُ للسلفيين نظرة احتقار (لا يرضاها التصوف) على اعتبار أن هؤلاء السلفيين يتبعون الفكر الصحراوى المتخلف، المخادع بالمظاهر، الذى لا يُعنىَ بترقية النفس الإنسانية للانتقال بها من مستوى النفس الأمارة بالسوء، إلى مستوى النفس الراضية المرضية.

وفى المقابل، يرى السلفيون أن المتصوفة يبهرجون على أنفسهم وعلى الناس، بباطل الأقاويل الفارغة التى تدخل فى باب (تلبيس إبليس) وتساير الأوهام بالساقط من كلام الكرامات والتهويلات المخرِّبة للعقول والنفوس.

وينظر السلفيون للمتصوفة على أنهم منحرفون عن صحيح الدين، لأنهم لا يهتمون بالفقه والعلوم الشرعية، ويقيمون «الموالد» الحافلة بالثريد (الفتَّة) ويرتكبون المنكرات بدعوى العبادة، ويتجرأون على الله، بإسقاط التكاليف الشرعية كالصوم والصلاة. .

وفى المقابل يرى المتصوفة أن السلفيين لا يحبون النبى، ولا يعترفون بالنور المحمدى. فهم محجوبون بجهلهم وبالمقت الذى يملأ نفوسهم، وبالتالى يصومون ولا صوم لهم، ويصلُّون ولا صلاة لهم، لإهمالهم «الإخلاص» الذى هو الشرط الأول لقبول العبادات، وليس لإنسانٍ أن يرقى إلى الله بكثرة الصلاة والصوم، ما دام غافلاً عن أسرار هذه العبادات ومعانيها الباطنة.

ولكن هناك أموراً جامعة بين المتصوفة والسلفيين، أولها انتسابُ الفريقين إلى دائرة دين واحد (الإسلام) وثانيها التراثُ المشترك بين الفريقين، وهو تراث الفترة الإسلامية المبكرة، حيث عاش النبى والصحابة، وتم إرساء قواعد الدين، قبل أن يتفرق الناس شِيَعاً ومذاهب متعددة (فرق)، وثالثها استمساك الفريقين بالنص القرآنى، سواء استفهمه الصوفية، بحسب معانيه العميقة، أو أخذه السلفيون على ظاهر حروفه.

غير أن هذه الأمور (الجامعة) هى التى عمَّقت (التفرُّق) بين المتصوفة والسلفيين، لأن كليهما يرى فى نفسه الموقف الصائب من الدين، ويعتبر ذاته القائم بشرع الله المكين، وينظر لذاته على أنه الامتداد الحقيقى لعصر النبوة والصحابة والتابعين بإحسانٍ إلى يوم الدين.

ولذلك، فلن نجد انتقادات «سلفية» لمسالك الرهبان المسيحيين، مثلاً، لأن هؤلاء يقعون خارج دائرة الإسلام أصلاً، وبالتالى فهم لا يعبِّرون عن شىء ولا يعتدُّ بهم. وتطهير الدين لا يكون إلا داخل نطاق الدين (الإسلامى) الذى هو قاعدة الاختلاف بين الفريقين، وإذا انتفت هذه القاعدة لم يعد هناك معنى للاختلاف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى