العنوان
محمد موسى العويسات | القدس
المكتوب يقرأ من عنوانه كذا درج على لسان العامّة قولا صحيحا، غير مختلف عليه، ولكلّ شيء عنوان، حتى الإنسان نفسه له عنوان، هو وجهه، إذ هو أول ما يطلّ عليك منه، فقالوا هو محيّا، وأول ما يقع عليه نظرك، وفيه نبأ ومخبر، فقال تعالى: ” سيماهم في وجوههم”، فكان الوجه عنوانا، فقالوا: صبوح، سموح، بشوش، وسيم، وعبوس، ونحس، وجهوم، وغيرها، ثمّ جاء العنوان، في مطلع الكلام، عبارة أو لسان حال، يشي بالموضوع وجهة الحديث، والفطن اللقن من يكتشف كنه الحديث من العنوان… وتفنّن الشّعراء في اختيار عناوين قصائدهم، وأسموها المطلع… أي البيت الأول من القصيدة، وقال النّقاد هو حسن المطلع وحسن الاستهلال… ومدحوا وذمّوا… وهكذا وجب الاعتناء بالعناوين، في الكتب والقصائد والرّوايات والقصص وغيرها من فنون الأدب، وقد وضعوا لها أحكاما استقرائية واجتهاديّة كثيرة، منها أن يقرأ المكتوب من عنوانه، وأن يكون لافتا، وألا يطوّل، وأن يكون جذّابا مغريا، وأن يحمل في ثناياه إشارات لغويّة أو تصويريّة… فعلى سبيل المثال لو تناولنا عنوان قصّة ( لمن تشرق الشّمس؟) فقبل أن تقرأ القصّة أنت تقف أمام سؤال لافت، يأخذك إلى عالم الضّياء وعالم الظّلمة، فهل هناك أقوام تشرق لهم الشّمس فيتنعّمون بالضياء والنور وآخرون محرومون منها، يعيشون في الظلام؟ ولماذا قال(لمن) ولم يقل (على من)؟ هناك فرق واسع بين حرفي الجرّ، ولمَ قال تشرق ولم يقل تطلع؟ والأهم في العنوان هو البعد الكنائيّ، هل الشّمس على الحقيقة أم هي مجاز؟، فهناك بعد رمزيّ لها جميل متّفق عليه عند أهل الأدب المنثور منه والمنظوم، ثمّ انظر في التركيب ما ألطفه لفظا وصوتا، لام جر دخلت اسم استفهام لا يستعمل إلا للعاقل، تبعه الفعل المضارع ( تشرق) والفاعل الشمس… ويأخذك العنوان في عالم الإشراق والشّروق المتجدّد ويحمل لك دلالات أبعد، ويحمل العنوان النقيض أو ما يسمّى عند علماء الفقه مفهوم المخالفة، فمن لا تشرق لهم الشّمس؟… إذن العنوان له أهمّيّة بليغة، وهو فنّ لا يجيده كثيرون، ويقف عنده أهل الفنّ طويلا… ويعكس حالة نفسيّة وعقليّة للكاتب وقعنا عليها أم لم نقع… فالعنوان المبهم له دلالة على نفسية صاحبه وكذا العنوان البين السّلس، ألا ترى أنّ صاحب العنوان الطّويل هو من يميل إلى التّفصيل المملّ في حديثه؟! وأنّ صاحب العنوان المسجوع يميل إلى التنميق ويهتم بالمظهر الخارجيّ؟ وأنّ الغاضبين الثائرين على الواقع المرير يستخدمون عناوين مختصرة وقاسية؟ وهكذا.