لنصنع ربيعنا في آذار المقبل
المحامي جواد بولس | فلسطين
لا يستطيع أحد أن يتكهّن كيف ستكون خارطة الأحزاب العربية التي ستطلب دعم المواطنين العرب في الجولة القادمة لانتخابات الكنيست، خاصة أننا لا نعرف كيف سيكون مصير القائمة المشتركة؛ فاحتمالات نجاح مركباتها الأربعة بإعادة بناء جسور الثقة بينهم تساوي عمليًا، في هذه الايام، احتمالات فراقهم وإعادة تشكيل جسمين رئيسيين منفصلين ومتنافسين على الأصوات العربية في الدولة.
لست بصدد العودة الى بدايات تشكيل هذه القائمة ولا ما شاب عملها من إخفاقات كنت قد أشرت اليها مرارًا في السنوات الماضية، ومثلي فعل الكثيرون؛ ولولا تسارع الاحداث السياسية والضرورة لمواجهة معركة إنتخابية رابعة حاسمة ومفصلية، لكان من الواجب إجراء جردة حساب شاملة، عساها تفضي الى خلاصات تفيد، برأيي، عملنا السياسي في المستقبل؛ سيان كان ذلك على مستوى المضامين السياسية الناظمة لتحركاتنا كمجتمع أقلية في دولة ابرتهايد ونظامها الفائق العنصرية، أو فيما يتعلق بآليات العمل وأشكال الأطر والتحالفات التي يتوجب علينا إقامتها على مختلف الجبهات.
لقد حاولت متابعة معظم ما كتب في هذه المسألة خلال العامين المنصرين، وقد شدّت انتباهي بعض المحاولات الأكاديمية اللافتة التي رصد فيها أصحابها بعض التغيّرات الإقتصادية التي طرأت على مجتمعاتنا العربية وأدّت الى نشوء طبقات اجتماعية جديدة بدأ افرادها بالانخراط في مفاصل الدولة والتفاعل داخل ومع مؤسساتها بمناهج ودوافع مستحدثة لم نشهدها ولم نشعر بزخمها من قبل، ولا بتأثيرها على هويتنا الجمعية وبنى مجتمعاتنا التقليدية، كما يحصل لنا في هذه الايام.
الى جانب تلك الآراء لاحظنا تأكيد أصحاب الخطابين التقليديين على موقفيهما المعهودين؛ فمن يتمسّك بخطاب “المواطنين الأصلانيين” عاد ليستظل بما يستوجبه هذا من مواقف سياسية ومن أشكال العلاقة مع الدولة ومؤسساتها، بما فيها مسألة المشاركة في الانتخابات وشروطها؛ بينما بقي أتباع الحركة الاسلامية على مواقفهم المعلنة، بما فيها دعوتهم الى مقاطعة الانتخابات.
هنالك حاجة للتعمّق في ظاهرة نشوء شرائح وطبقات جديدة بين المواطنين العرب وعدم التوقف عند عتبات التشخيص وحسب؛ فالبحث عن كيفية احتواء هذه المتغيّرات وتجييرها لصالح المجتمع وهويته الجامعة، سيبقى هو المهمة الأولى التي على النخب والقيادات المسؤولة والواعية تولّيها بعد انتهاء المعركة الانتخابية القادمة.
لقد ناديت في الماضي بشكل واضح وصريح الى ضرورة المشاركة والتصويت في الانتخابات؛ وأعود اليوم وأكرر مبكّرا موقفي الآنف، فأدعو الجميع الى المشاركة في التصويت في المعركة المقبلة؛ وذلك رغم شعوري، مثل الكثيرين ممن صوتوا للقائمة المشتركة، بالخذلان، ورغم عدم الرضا من بعض تصرفاتهم أو مواقفهم في محطات عديدة؛ لا سيما بعد انتشار مشاهد المناكفات الأخيرة التي انعكست تحديدًا في الخلافات حول مواقف وتصريحات الدكتور منصور عباس وحركته الإسلامية.
سأعود إلى هذه المسألة وسأحاول تفكيكها بناء على تجارب الماضي، فالاكتفاء بإطلاق هذا النداء لا يكفي بطبيعة الحال، لكنه ضروري في هذه المرحلة، خاصة ونحن نشهد تنامي الاصوات الداعية الى مقاطعة الانتخابات، والى جانبها محاولات عدة مجموعات للنيل من القائمة والتهجّم على مركباتها بانتهازية خطيرة، بخلاف انتقادها بشكل بناء؛ علمًا بأن بعضهم يستغلّ وضعها لتبرير قفزته الى حضن الأحزاب الصهيونية اليمينية، أو دعوتهم الى تأسيس احزاب عربية على طريقة “الانستانت”/ السريعة الذوبان.
فتحت المنصات الاعلامية العبرية والعربية، على حد سواء، أثيرها للعديدين من المعقّبين العرب أو أولئك الذين وصفوا بالخبراء أو المستشارين او المثقفين أو مجرد “مواطنين بسطاء”، فطفق معظمهم ينظرون لفشل القائمة المشتركة وسلاحهم الأمضى كان سؤالهم: ماذا فعل لنا أعضاء الكنيست العرب ؟ وبعضهم كان يسترسل بعدّ ما نواجهه، كمواطنين عرب، من آفات ومظالم، بدءًا من تنامي مظاهر العنف وحالات القتل المستشرية بيننا، ومرورا بضيق الاحوال الاقتصادية ورداءة البنى التحتية في قرانا ومدننا وما الى ذلك من شواهد ومآسي، اعفوا من مسؤوليتها الدولة ووزارتها وعلقوها نواقيس خيبة على رقبة القائمة المشتركة.
عن هذه الظاهرة المستفزّة سأحصر كتابتي اليوم وسأكرّر روح ما قلته في الماضي؛ فلن يختلف اثنان حول دوافع معظم هولاء؛ ولكننا في الوقت نفسه سنجد من ينادي الى مقاطعة الانتخابات، لإيمانهم، غير المبدئي وغير الواعي، بعدم أهمية التمثيل النيابي العربي في الكنيست، فيتخذون، في ظل هذه المغالطة، موقفًا عدميًا يبقيهم يوم الانتخابات في البيوت أو يخرجهم للاستجمام في أحد الشطآن، أو في رحلة شواء، مستغلين يوم العطلة، بصحبة اليأس والنرجيلة، او التصويت لصالح الاحزاب الصهيونية اليمينية.
لن أعدّد كل الأسباب التي ساعدت على انتشار هذه المقولة وتحوّلها الى أحد أهم العوامل في تبني قطاعات متعددة من المواطنين العرب لموقف مقاطعة الانتخابات بعد أن مارسوها لدورات عديدة.
فلقد عملت أجهزة الدولة الموكلة على نشر هذه الفرية بذكاء، ونجحت بترسيخها في جيوب سكانية عديدة فتبنتها قطاعات واسعة، ليس عن عقيدة أو مبدأ، حتى ضاعت “طاسة” الحقيقة بين داع للمقاطعة لمصلحة شخصية وإغراض، وبين مضلَّل أو مؤمن بها عن جهالة أو عن يأس أو عن “مجاكرة” أو عن احتجاج ساذج ؛ وعلى جميع الأحوال فلقد ربحت ماكنة الدعاية الصهيونية، من جراء ذلك، معركة هامة؛ وسجّلنا، نحن المواطنين العرب، بالمقابل، هزيمة جديدة في سجل هزائمنا الطويل.
لقد ساهمَت قيادات الاحزاب والحركات السياسية والدينية، بصورة غير مباشرة وغير مقصودة، في رواج ذلك الشعار بين تلك الاوساط؛ ففي حين كانت ماكنات الإعلام الحكومية الاسرائيلية وأبواقها المحلية تراكم تأثيرها شعبيًا، كانت القيادات العربية غارقة في صراعاتها الداخلية، أو تلهث، مستنزَفة، في سباقاتها على مسارات الولاءات الملتبسة، في مشهد ساعد على إبعاد الناس عن تلك الحلبات المزعجة.
لن أكتب، ونحن نقف مرة اخرى امام فوهة البركان، عن أسباب ذلك الترهل والضعف، لأن مقصدي، ونحن أمام مرحلة مفصلية، هو اقناع هذا الفريق من المقاطعين بضرورة مشاركتهم في التصويت المقبل، ولأنني ارى بوجود النواب العرب في الكنيست، رغم عرجهم أحيانًا أو زلاتهم أحياناً أخرى، ومعهم من يدعم قضايانا الأساسية وحقوق الشعب الفلسطيني، ضرورة بديهية تمارسها ومارستها معظم الأقليات التي تناضل من أجل بقائها في وطنها وحصولها على حقوقها المدنية؛ ويكفينا أن نرى، كبرهان على صحة ما قلت، كيف تسعى أحزاب اليمين بكل طاقاتها وخدعها وتحاول إقصاء الأحزاب والحركات السياسية العربية عن الكنيست، وكذلك تحاول تخفيض نسبة المصوتين العرب أو سرقة ضعاف النفوس والمنتفعين لصالحها. وحتى نتنياهو اشتمّ “رائحة الزفر” وشمّر عن ساعديه محاولًا اصطياد فرائسه بطعوم معسولة، هذه المرة، وبشباك من صناعات محليه.
لقد فشلت الأحزاب العربية في السنوات السابقة بصدّ تلك الدعاية الخبيثة وبصدّ غيرها من الدعايات التي أثّرت سلبًا على روح الجماهير وأدّت الى عزوفها والى تنامي نداءات المقاطعة بشكل طردي ومقلق؛ أما اليوم فيجب، فيما تبقى من وقت، العمل المبرمج والصارم على محاورة أوسع القطاعات المتكاسلة وإقناعها على أن اهمية مشاركتها لا تتوقف فقط على أهمية وجود أكبر عدد من النواب العرب وحلفائهم الحقيقيين، بل لأنها أيضًا تعدّ فعلًا ضروريًا من واجب الانسان الحرّ والواعي ممارسته؛ وهي كذلك تعتبر استجابة لحاجة وجودية يمليها العقل من أجل تحقيق ذات كل فرد فاعل في تحديد صورة وشكل المجتمع الذي سيعيش فيه.