الاستعمار في أوضح صوره وتجلياته
إبراهيم محمد الهمداني
مما لا شك فيه أن امتلاك الإنسان لمقومات القوة، يغذي فيه نزعة السيطرة والهيمنة، وتوسيع النفوذ، وفرض السلطة على الأمم والشعوب المجاورة، والضعيفة منها على وجه الخصوص، ورغم وضوح أطماع ذلك الغازي المحتل، في استغلال وتسخير الثروات المادية والبشرية، لخدمة مشاريعه السياسية، وتعزيز قوته ونفوذه وسيطرته، إلاّ أنه لا يجرؤ على إعلان حقيقة حضوره، وتوضيح سبب تواجده الغير مشروع، مهما بلغت قوته وعظمت هيمنته، إذ يسعى – دائماً – إلى إيجاد مبررات وذرائع، تفسر – ولو إلى حدٍ ما – سلوكه التسلطي، المنافي لطبيعة الاستخلاف البشري، الذي وضع الله تعالى أسسه، وحدد غاياته، ومهما اجتهد المحتل في تبرير انحرافه الأيديولوجي والسلوكي، فإنه سرعان ما يسقط أخلاقياً وحضارياً، وسرعان ما تفضحه أطماعه الاستغلالية، ونزعته الاستعلائية، حيث يرى نفسه فوق الآخرين على كافة المستويات، ومن برجه العاجي – واستناداً على معطيات القوة لديه – يمنح نفسه صورة النموذج المثالي، الأجدر – دون غيره – بالحكم والسيادة والسيطرة، على كل من وما حوله، الذين يفترض بهم أن يكونوا ممتنين له جداً، لقبوله إياهم – رغم تخلفهم وضعفهم – وضمهم في قافلة الركب الحضاري، وبذلك يتم إيهام الشعوب المستضعفة بفضل الغازي المحتل عليها، وكرم أخلاقه في ضمها وإلحاقها – ولو على سبيل التبعية – بمسيرته الحضارية المزعومة.
كان ذلك أحد المبررات التي لجأت – وتلجأ – إليها قوى الغزو والاحتلال والهيمنة، التي كانت ومازالت تقدم نفسها بوصفها النموذج الحضاري المثالي، الذي يمتلك أسباب البقاء وأسرار الكمال، بينما لا يعدو الآخر – الشعوب المستضعفة – كونه أنموذجاً للتخلف والضعف والعجز، ولذلك أطلقت عليه عدد من التسميات – بما تحمله من أبعاد ثقافية وفكرية – الدالة على دونيته وتخلفه وهامشيته وبدائيته، مثل: – العالم الثالث، والدول النامية، والبلدان المستهلكة، مقابل الدول المنتجة، والشعوب المتحضرة، والدول الصناعية، وغيرها من التسميات التي لا تخلو من عنصرية، تعمل على تكريس استعلاء ذات المحتل الغازي، على حساب تهميش وإلغاء وإقصاء ودونية الآخر، الذي تجسده الشعوب المستضعفة، ولم تتوقف قوى الاحتلال عن ابتكار المبررات والذرائع، التي تفسر تدخلاتها السافرة وحضورها الشاذ، وفرض سيادتها على الشعوب الأخرى، وممارسة الوصاية السياسية، والأبوية السلطوية، حيث لا يحق لها ممارستها، جاعلة من تدخلها واحتلالها عملاً إنسانياً، ومكرمة تجلل بها تلك الشعوب، لأنها بذلت في سبيلها أغلى التضحيات، انتصاراً للإنسان وتلبية الواجب الإنساني، حسب زعمها، وفي هذا السياق يحدثنا التاريخ عن الآباء الدومينيكان اليسوعيين في العصر الوسيط، الذين كانوا “يبررون فرض هيمنتهم وتسلطهم على الشعوب الأخرى، بأنه تدخل من أجل سلطة شرعية، أو من أجل إقامة سلطة عادلة، دون التساؤل عن معنى الشرعية أو العدالة، وكيفيتهما” .
وكذلك الشأن بالنسبة لمن زعموا احتلالهم للأوطان من أجل نشر الحرية والعدالة والمساواة وإعادة الشرعية، كما يزعم التحالف العدواني على بلادنا في الوقت الراهن، بينما لا يعدو كونه احتلالاً بغيضاً، أثبت الواقع حقارته وقذارته وأطماعه وكشف لمرتزقته – قبل غيرهم – صورته الحقيقية، لتتبخر أحلام المغفلين، ويسقطوا جميعاً في مستنقع الخيانة والعمالة والارتزاق.
ولعل أخطر تبرير لوجود المحتل هو توصيفه بالاستعمار، وأنه ما جاء من أجل الإعمار والبناء، وتحقيق النهضة والرفاة، لتلك الشعوب (النامية) العاجزة عن اعمار أرضها وتحقيق نهضتها، نظراًٍ لعدم امتلاكها الرؤية الحقيقية، لمشروعها الحضاري الخاص بها، بخلاف ذلك المحتل، الذي امتلك – إضافة إلى مشروعه الحضاري – كل المقومات التي تمكنه من تصدير نموذجه الحضاري، وتمنحه الحق في تعميمه على الشعوب المتخلفة عن ركب الحضارة.
أصبحت كلمة “الاستعمار” هي التسمية الجديدة المبررة لوجود المحتل، وتسويغ احتلاله وسيطرته، حيث جرى التغاضي عن هيمنته وبسط نفوذه على أرض ليست أرضه، وشعب ليس شعبه، مقابل أحلام الإعمار والبناء والنهضة، التي توهم بها التسمية الجديدة، بينما لم يتحقق منها شيء على أرض الواقع، ولم يقدم ذلك المحتل غير الهدم والخراب والدمار، وبث مشاريع الصراعات والحروب والفرقة بين أبناء الوطن الواحد، على قاعدة “فرق تسد”، وتسخير كل الإمكانات والمقدرات والثروات المادية والبشرية لحساب مصالحه، بما يحقق نهضته وثرائه، وتكريس حضوره سياسياً وعسكرياً، وتحويل ذلك البلد إلى عمق استراتيجي، وحديقة خلفية له، وجعله تابعاً مستلباً، بعد إفراغه من كل مظاهر ومكامن القوة والنهوض.
إن قراءة حضور الاحتلال الغربي والاحتلال الأوروبي، في عهديهما القديم والحديث، في إطار المعطى الإنساني، وطبيعة المنتج الحضاري، يثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن هذين الاحتلالين، في صورهما المتعددة والمتكررة، لم يقدما للشعوب المحتلة، غير الخراب والدمار والتفكك والضياع، ولم يحملا أي مشروع حضاري للشعوب المتخلفة، ولم يتجاوز منتجهما الحضاري – إن جازت التسمية – أكثر من كونه خليط من النفعية البراجماتية القذرة، والهيمنة العسكرية المتوحشة، والأبوية التسلطية الاستعلائية، والقيادة بعقلية اللصوص وقطاع الطرق، ولم يكن ذلك الخليط المضطرب، إلاّ نتاجاً لطبيعة الأيديولوجيا الاستعمارية، التي أقامت الاجتهادات الفلسفية البشرية، محل المنهج الإلهي، في تحقيق الاستخلاف، ورسم استراتيجيته الثابتة على مدى الزمن، وإذا كان العقل الغربي والأوروبي، قد انتهج ذلك النهج المعادي للدين الإلهي، فلأن ذلك الدين نفسه قد تعرض لاغتيال التحريف والحذف والإضافة لديهم، حسب أهواء رجال الدين، سواء اليهود أو المسيحيين، وبذلك فقد الدين مصداقيته وقدسيته، وقدرته على إنتاج نموذج حضاري ناجح، يقود البشرية إلى بر الأمان، كما حدث في عهد الأنبياء عليهم السلام.
سعت قوى الاحتلال إلى تكريس وجودها في الوجدان الجمعي، تاريخياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، في قالب استبدادي جديد يسمى الاستعمار، لتطيل من خلال ذلك الوهم أمد بقائها، زاعمة أنها تمتلك مشروعاً حضارياً إنسانياً، لكنها سرعان ماسقطت في زيف دعواها، في حين عجزت عن ترجمة المشروع المزعوم، في مخرجات نتاجها الحضاري على أرض الواقع، وبذلك أصبحت المبادئ والقيم – مثل الحرية والعدالة والديمقراطية والشرعية وحقوق الإنسان – التي ادعت تبنيها والنضال واحتلال العالم من أجلها، مجرد شعارات فارغة، ومسميات قتلت روح معانيها، وقطعت صلاتها عن جوهرها، خاصة وأن من يدعو إلى حرية الشعوب، هو من يستعبدها، ومن ينادي بحقوق الإنسان، هو من ينتهكها، ومن يسعى لرسم مثالية صورته، من خلال زعمه تطبيق العدالة، هو نفسه من يمارس أبشع أنواع الظلم، ومن يروج لتواضعه الزائف، بمظلة المساواة، هو ذلك الذي يمارس أقذر مظاهر العنصرية والتعالي، وبين النظرية الأخلاقية التي يتقنع بها، والممارسات السلوكية التي ينتهجها، ينتصب سور شاهق من عملية التزييف الممنهج للوعي الجمعي، ولذلك تعد حرب المصطلحات من أخطر الحروب على الإطلاق، حيث يهدف الغزو الفكري، إلى خلخلة وهدم وتدمير بنية معرفية/ أبستمولوجية جمعية كاملة، لتحل محلها ثقافة المحتل الغازي، الذي تكرسه أنموذجاً لا يُعلى عليه، مقابل تكريس دونية واستلاب وتبعية الذات، وكأن ذلك قدراً لا مناص منه.
لم يحمل المحتل – قديما وحديثا – أي مشروع حضاري إنساني، لأن فاقد الشيئ لا يعطيه، ولم يقدم سوى الموت والدمار والوحشية والبدائية والهمجية، والتناقض والاضطراب والتفكك، الذي حمله نتاجه الثقافي والمعرفي والفكري، وتضمنته استراتيجياته السياسية والاقتصادية، ومشاريعه الثقافية المختلفة، وإذا كان الاستعمار/ الاحتلال العسكري القديم، قد عجز عن فرض سيطرته المطلقة زمانيا ومكانيا، فإن الاستعمار الحديث، قد نجح في تحقيق معظم مخططاته، بأقل كلفة وأقل جهد، من خلال الاعتماد على مخرجات ونتائج الغزو الفكري وحرب المصطلحات والمفاهيم، في سياق الحرب الناعمة، التي تعد البوابة الحقيقية للسيطرة الخفية على الشعوب، وإدارة وتغذية الصراعات البينية الداخلية، والحصول على أكبر قدر من المصالح والامتيازات والنفوذ والسيطرة، دون الحاجة إلى الاحتلال العسكري المباشر للأرض – في كلفته الباهظة – مادامت استراتيجية احتلال العقول، تحقق ذلك وأكثر.
سعت القوى الإمبريالية إلى توصيف حضورها وهيمنتها – كما أسلفت – بمسمى “الاستعمار” ، بهدف التخفيف من بشاعة صورة المحتل، وقسوة الغازي، وهمجية الغاصب، وتوظيف دلالات البناء والعمران، قناعا لدوره التخريبي الهدام، مستغلا محمولات الدلالة المعجمية، الناصَّة على البناء والإعمار، في صيغة الاستفعال، الدالة على المشاركة والتكرار، إلاَّ أن دلالته التواضعية/ التداولية، قد أعادته إلى سياقه الثقافي والمعرفي والأيديولوجي، الدال على الاستيطان القسري، واغتصاب الأرض واستيطانها، وتهجير وقتل سكانها الأصليين، ونهب خيراتها وثرواتها، بما في ذلك الثروة البشرية، حيث يتم استعباد السكان، وتسخيرهم للعمل مجانا لصالح المحتل، كما يدل السياق التداولي – أيضا – على عملية التغيير الديموغرافي الطارئ على بنية وطبيعة المجتمعات الأصلية، وإحلال أخرى مستوطنة دخيلة، لا تمت إلى ثقافة وهوية المكان بصلة، ولا يربطها بمن وما حولها أي رابط، وهو الأمر الذي عمل المستعمر على تجاوزه، والقفز عليه، من خلال فرض ثقافته المتعالية، بوصفها النموذج الأرقى والأمثل، القادر على الارتقاء بتلك الشعوب المستعمرة، ونقلها من مستواها المتدني، إلى مصاف شعوبه المتحضرة، وليس هناك أحقر من المحتل الغاصب، إلا عملاءه ومرتزقته، الذين يسبحون بحمده، ويقدسون كل جرائمه، وكأنه صاحب فضل عليهم وعلى شعوبهم المضطهدة، في كل ما يمارسه من انتهاك وإجرام بحقهم، مادام يفعل ذلك من موقعه الحضاري، وتفوقه وقوته.
سعت القوى الاستعمارية إلى تكريس وشرعنة وجودها، في صيغ مختلفة، ومستويات متعددة، لتفتح بذلك آفاق الصراعات البينية الإثنية الداخلية، على أوسع نطاق، ومن ذلك سعيها لتكريس وجودها وشرعنة احتلالها، بوصفها المعادل الموضوعي المعرفي والوجودي للحضارة والتطور التكنولوجي، وبناء على ذلك تم التعاطي مع مصطلح “الاستعمار” بوصفه الحامل الوحيد للمشروع الحضاري، والتطور التقني والازدهار الاقتصادي، ولا بأس من الانظواء تحت سلطته، والرضى بهيمنته وتسلطه، من أجل الفوز بمكانة في السلم الحضاري، أو – على الأقل – التنعم بنتاجه الحضاري، والانتفاع من مفردات مشروعه ومكوناته، وبهذا تخذ الصراع البيني مستويات متعددة، حيث قاد مصطلح “الاستعمار” إلى صراع معرفي وثقافي وأيديولوجي وسياسي واقتصادي، وغير ذلك، في إطار ثنائية القبول والرفض، القائمة على التعصب الأعمى، والأسوأ من ذلك، أنه لم يخرج من بين القبول المطلق والرفض المطلق، موقف معتدل في أحكامه، متوسط في رؤيته، يستفيد من المعطيات الحضارية، التي أصبحت جزءا من حياته اليومية، ونافذة إلى مستقبله، ويحافظ – في الوقت نفسه – على هويته وخصوصيته وكيانه، ويبني نظرته للمنتج الحضاري الغربي، بوصفه نتاجا بشريا تراكميا جمعيا، وإرثا مشتركا، لا يحق لأحد احتكاره، أو حصره على ذات بعينها في دائرتها المغلقة، وبذلك لن يكون للمستعمر أي فضل على الشعوب المستضعفة، ولن يكون له أي حق في نهب وسرقة واستغلال خيرات الشعوب وثرواتها ومقدراتها، بحجة أسهامه في إثراء المشروع الحضاري، والتطور التكنولوجي، والتفوق العسكري، أو بمعنى أدق:- لأنه توصل إلى تصنيع وتطوير الأسلحة، ما يمكِّنه من قتل ثلثي البشر، وتدمير الحياة على الأرض، في غضون ساعات، إن لم نقل دقائق، وهنا نتساءل:- ما هي نتاجات المشروع الحضاري الغرب/ أوروبي، غير مصانع الأسلحة بمختلف مستوياتها، التقليدية والبيولوجية والكيميائية والذرية والنووية وغيرها،
هل ثمة مقومات أخرى، غير الهيمنة الاستعمارية، والرغبة في بسط النفوذ والتسلط، قام عليها ذلك المشروع؟؟
هل يمكن القول إن مشروعا قام على أساس فرض القوة والهيمنة والوحشية والبدائية والهمجية، مشروع حضاري إنساني، وكيف يمكن التغاضي عن غياب المعيار الأخلاقي، الذي يعد الركيزة الأساس لكل مشاريع النهضة والتقدم والتطور الحضاري.
كثيرة هي الأسئلة التي تلقي بظلال الحيرة والذهول، وتشحن فضاء التلقي بصدمة معرفية، تكشف زيف الحضارة الغربية الاوروبية، وتسقطها من عليائها المتصنعة، لتضعها في سياقها الاستعماري البراجماتي، القائم على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، مهما كانت قذارتها ووحشيتها وضعتها، مادامت ستحقق المزيد من الهيمنة والنفوذ والتسلط والاستعباد، الأمر الذي يؤكد أن المستعمر واحد والمشروع واحد والهدف واحد، وأن الفرق بين القاتل البدائي/ التقليدي، والقاتل العصري/ المتحضر، ليس أكثر من ذلك الخيط الواهن من الحضارة المزعومة، المتمثلة في الشعارات، التي تقتل الإنسان، تحت بند حماية حقوقه، وتعمل على قتل الطفولة، بنشر المجاعات والأوبئة، لكي تنادي بضرورة احترام حقوق الطفل، وتدمر وتستعبد الشعوب، تحت شعار الحرية والديمقراطية وحق تقرير المصير، وتجعل المرأة مجرد سلعة، وتهدم بنيانها، وتقضي على كيانها، بزعم تحريرها وحقها في المساواة، لكن تلك المزاعم والشعارات سرعان ما تسقط في تناقضاتها الفجة، وتفصح عن حقيقتها التسلطية، ودورها التخريبي، وطبيعتها البراجماتية المتعالية، ومسماها الاستعماري الصريح، الذي لا يعبر إلا عن الاستعمار في أوضح صوره، وأقذر مظاهره وتجلياته.