مقطع من رواية قيد الكتابة

أنغام عبد الرازق شعيب | مصر

١

اليوم هو الثلاثاء، انتشر الرجال والشباب في جماعات صغيرة بطول الشارع يتكلمون في كل شئون الدين والدنيا.. ترى من لا يزال في عمله والوقت لا يزال في منتصف النهار؟! الجميع في الشوارع.. واليوم هو يوم السوق وينتشر الباعة الجائلون هنا وهناك..

تتفاوض النساء على أسعار كل شيء، فالجو مشمس تلطفه نسمات نوفمبر الباردة بغير قسوة، والبيوت مملة وشئونها لا تنتهي.. إنها فرصتهن للخروج والثرثرة وشم بعض الهواء بعيدا عن أبخرة المطبخ وصراخ الأولاد ورائحة العطن المستقرة في البلاط الرخيص.

تسير فاطمة وسط الزحام الذي ناءت به الأرض، خمرية البشرة بعينين واسعتين وأنف منتصب، يلقبها جيرانها بفاطمة (الكدابة) ليس لأنها كثيرة الكذب، ولكن لاهتمامها بمظهرها بطريقة لافتة، فهي حريصة على طلاء أظافرها ونظافة فساتينها التي هي بعدد أصابع اليد الواحدة، وحرصها على ارتداء الكعب العالي الذي تآكلت أطرافه، رغم ما تتعرض له أثناء سيرها به على الأرض الترابية وبين مستنقعات الطين الصغيرة المنتشرة في الحارة، وكذلك لطريقتها في المشي والكلام التي تعطي انطباعا بالأرستقراطية رغم تواضع حالة أسرتها المالية، فهي زوجة لشاب يدعى (محمود) موظف صغير بالتعليم، متوسط الطول متواضع الوسامة، لا يوجد ما يميزه سوى شعره ولا يمكن أن تعلق ملامحه بالذهن لأكثر من دقيقتين.

تسير فاطمة بهدوء خشية التعثر، حاملة حقيبة بلاستيكية تشبه شبكة الصيادين، ملأتها بالخضر ومستلزمات طهي غداء الأسبوع، تسير عبر الجمالية حتى شارع برجوان ومنه إلى حارة  ضيقة ليس لها اسم، اعتاد الناس تسميتها بحارة البركة نسبة إلى بقالة صغيرة على ناصيتها تحمل نفس الاسم.

تنظر فاطمة أمامها ولا تأبه للنظرات المتلصصة من الرجال إلى وجهها أو صدرها أو عجيزتها، هي تحتقرهم جميعا ولا تقيم لعيونهم وزنا، تتجاهل أيضا نظرات النساء غير المتلصصة.. نظرات وقحة متحدية يرسلنها إلى عينيها مباشرة ثم إلى ما تحمله من مشتريات.. نساء قبيحات المنظر والرائحة متقوسات الظهر تحت تحت وطأة الغم وضيق العيش، يعانين جميعا من مشاكل نفسية متعددة، ينهش أعصابهن الجوع الجنسي البادي على ملامحهن المرهقة وعضلات وجوههن المتقلصة والرغبة في افتعال المشكلات بسبب وبغير سبب.

بينما تفكر في بؤس غيرها شعرت ببعض الرضا وارتسمت على وجهها ابتسامة صغيرة، ثم تلاشت الابتسامة عندما سمعت أحدهم يقول بصوت عال (استغفر الله العظيم يا رب.. حاجة تقرف) ثم بصق على جانب الطريق ونظر إليها بغيظ واستمر في طريقه!

تأملت فاطمة خطوات حذائها العالي على الأرض غير المعبدة وهي تفكر.. هل كانت مصادفة أن يطلق على هذا الشارع اسم برجوان؟ أم هو القدر يسخر من هؤلاء الرجال؟ هل يعرفون أن برجوان هذا كان غلاما خصيا تربى في قصر الخليفة العزيز بالله؟ هل يعرفون أنه قد ولي أمر القصور وقد كبر نفوذه كالثعبان في أيام الحاكم بأمر الله فصار على رأس السلطة ومدبر المملكة حتى أمر الحاكم بقتله عندما عظم نفوذه وأساء الأدب؟

بالطبع هم لا يعرفون.. هم لا يعرفون شيئا على الإطلاق! إنهم يتشاجرون إذا فاز الأهلي وإذا انهزم! إنهم ينفقون دخولهم على الحشيش والمقاهي وأولادهم يلعبون حفاة في الحارة الضيقة التي لا تدخلها الشمس..

 إنهم ذباب الخليقة، يتقاتلون على فتات الدنيا، يعيشون على حافة الزمن بل خارجه! وتتذكر زوجها، هو أيضا واحد منهم، لا يشغله شيء من أمور الدنيا ولم يقرأ كتابا في حياته ولم يجرب جديدا!

كم هم تافهون.. كم هم مملون!

لم تعدفاطمة تحب زوجها، لم تعد تشعر نحوه بشيء من عاطفة الحب التي اعتقدت بوجودها منذ وقت ليس ببعيد، تفكر في هجره في كل صباح وسرعان ما تتبدد كل خططها للانفصال لتقرر المحاولة وبدء حياتها من جديد، لم تكن تريده حقا ولكنه الآن زوجا بين يديها يحميها من الألسنة ومن فقر العيش مع أسرتها.. ربما ستحبه يوما ما، ربما ستمنحه طفلا يوما ما..

 تفكر في ذلك بينما تتذكر سنوات حبها الأول، طيف تفتقده كلما خلت إلى نفسها لكنه لا يعود، فقط يلوح لها من الماضي بذكراه الشاحبه..

لم تكن تدري أنه كلما كان يردد: (إلى الأبد)،كان يسخر منهما الشيطان ويضحك من أعماق قلبه الهازئ..

كان (صالح) صعيديا، يقيم في بيت فقير للطلبة يجاور بيتهم، كانت تراه أوسم فتيان الزمان.. أبيض البشرة بعينين لوزيتين بلون العسل المصفى وشفتين باسمتين كشفاة الأطفال، تقاتلت على حبه فتيات مصر القديمة كلها، لكن قلبه لم يتعلق إلا بها..

 كان أطول أقرانه وأشدهم بأسا، لكنه ينحني قليلا إن سار بينهم كي لا ينزعجون من فرق طول القامة؛ كان خجولا له ابتسامة ساحرة لكنه كان قصير الفتيل سريع الغضب.. تأخده الحمية بلا هواده فتورطه في المشكلات والمشاجرات التي لا شأن له بها، فكان أناحتدمت في ليلة ما إحدى المشاجرات بينه وبين صاحب البار اليوناني الذي اعتاد زيارته في الأعياد مع رفقاء الجامعة والسكن، وأراد العجوز أن يثأر لكرامته فتربص به باليوم التالي وقتله.. طعنة سكين لم تستغرق ما يزيد عن الثانية، وقد ذكر المغدور اسم قاتله قبل أن يلفظ النفس الأخير فأودع الرجل في السجن، وانتهى الأمر!

لقاءات وغيرة وخصام وعناق وآمال.. ثم لا شيء، كأنه نسي منسي حتى تزور بيت أبيها أو تمر على سمعها إحدى الأغنيات التي كان يرددها وهو يسير بجوارها..

من يومها لم تختبر المسرة دون تأنيب ضمير أو توجس خيفة، ويا انصداع القلب الذي يسمونه صمتا! غابت الأصوات من بعد غيابه وتركت قلبا مترعا بالحزن لم يكد يبكيه شيئا..

تمنت بعده الشفاء ولو بالنسيان.. ولو بالموت، الأفظع من موته كان تمتعها بالحياة وبالضحك وبالبكاء وبالزواج، لكن هذه هي الدنيا كما يقولون..

ومتي يبعث الحزن ميتا؟ شهور كاد فيها الحزن يقتلها قتلا، ثم عادت إلى الحياة لنفاد صبرها ورحمة بأمها، فما أحوجنا في ضعفنا وحزننا إلى الرحمة بأنفسنا.. وليداوم على الحزن من يضمن أن يعيش أبدا! كلنا ميتون!

ثم تقدم لخطبتها صاحبه، كانت تجفل كلما مرت بذكراها صورتيهما وهما يسيران معا تحت بيتها، لكن وافقت لاقترانه بذكراه، يذكرها بصورته وأماراته وأسلوبه في الحديث وفي المزاح فتشكر الله أحيانا على التذكار، ويغشاها الحزن الغليظ أحيانا، وشيئا فشيئا لم يبق إلا الأثر الباهت للحب الأول، وتبقى الحقيقة المفعمة بالحياة والحركة، وفي القلب تتخبط الذكريات والآمال..

تقول لنفسها: ارتديت فسان الزفاف لصديقه، لكني لم أحزن قليلا يعلم الله، بموته مات جزء مني.. ومات أملي في الدنيا فمن يلومني على التصبر اليوم؟ قلبي جريح وإن ضحك وسلمت أمري إلى الله، ولم يأمرنا أن نهلك أنفسنا وراء من نحبهم إذا رحلوا..

وها هي اليوم امرأة كاملة وزوجة.. يالغرابة تلك الفطرة البشرية التي لم تتوقف عن التلاعب بالإنسان منذ بدء الخلق.. كم من العجيب أن تصبح الفتاة امرأة!

تزوجت فاطمة من (محمود حسين الصاوي) عندما كانت في العشرين، كان هو في الخامسة والعشرين وكان شابا عاديا متوسط الطول، يميزه فقط شعر نحاسي لامع، أطلق عليه الجيران بسببه لقب الخواجة أحيانا، وأحيانا (محمود الاسكتلندي) الاسم الذي لازمه لبقية حياته ولم يعد أحد يتذكر إن كان اسماً حقيقياً أو مجرد لقب!

كانت هي من أجمل فتيات الجمالية كلها، وتقدم لخطبتها معظم رجالها، رغم بساطة أسرتها التي كان يعمل ربها حلاقا في أحد محال الحسين، لكن انتهى الأمر بتزويجها من محمود..

لم يحب الحلاق تلك الزيجة ولم يرتح لها، لكن رغبته في مصاهرة موظف الحكومة كانت أقوى من أن تجعله يرفض.. لم يكن يعرف كيف سينفق العريس على ابنته وراتبه لم يتجاوز العشرة جنيهات، لكنها لم تعد مشكلته على كل حال! الفتاة سعيدة والنسب يشرف ولتأتي المشكلات في وقتها.

اليوم هو الجمعة.. استيقظ الزوجان في التاسعة، أعدت فاطمة الإفطار وجلست مع زوجها على طاولة خشبية بسيطة بأربعة مقاعد.. جلس محمود يتناول إفطاره في شغف حقيقي.. فعلاقته بالطعام علاقة عاطفية، هو يحب الأكل لمجرد الأكل رغم أن وزنه لا تبدو عليه علامات الشره؛ علاقة حب بينه وبين الطعام لم تفهمها يوما.. بينما جلست هي تحتسي الشاي في بطء واضعة ساق على الأخرى وتتصفح الجريدة ككل يوم..

-ألا تعتقدين أنك تنفقين على الصحف أكثر مما ينبغي؟

-لا، لا أعتقد ذلك

-أنا لا أحاسبك يا عزيزتي فقط ألفت نظرك، لكن بالطبع أنتِ حرة.. هو مصروفك ولتنفقيه كما تحبين، فقط أقول أنكِ بالفعل تقرأين أكثر مما ينبغي؛ أنتِ تضيعين وقتك وتهدرين هاتين العينين الجميلتين.. عندما تبلغين الأربعين ستصابين بالعمى لا تقولي أني لم أحذرك.

-هل تعرف أن معظم الناس لسيو حقيقيين؟

-ماذا؟

-ليسو حقيقيين بحيث أن أفكارهم هي آراء غيرهم، وحيواتهم ما هي إلا محاكاة لحياة غيرهم، ومشاعرهم ليست سوى اقتباس لما يشعر به غيرهم..

يقول محمود ضاحكا: كم أنا محظوظ! زوجتي فيلسوفة! لماذا لا تؤلفين الكتب؟ سنجني أموالا طائلة!

يقوم ضاحكا ليذهب إلى الحمام، يغتسل ويرتدي جلبابا أبيضا ويذهب للصلاة.. بينما تجلس فاطمة تنظر أمامها إلى اللاشيء وعلى وجهها ابتسامة تدل على الحزن أكثر منها إلى التبسم!

بعد أن عاد محمود من الصلاة تناول الزوجان الغداء، وبينما تعيد الزوجة الأطباق إلى المطبخ وتعيد ترتيب الطاولة يخرج محمود من غرفة النوم مرتديا ملابسه ويستعد للخروج..

فاطمة: إلى أين؟

محمود: ذاهب للقاء صديق قديم.

فاطمة: صديق قديم؟

محمود: فريد.. صديق من أيام الجامعة التقيت به مصادفة بعد الصلاة، أخبرني أنه انتقل حديثا إلى المنطقة واتفقنا على اللقاء بعد العصر في مقهى محروس..

فاطمة: لا.. ابق معي وقابله في المساء

محمود: حبيبتي قد اتفقت مع الرجل على الموعد وهو غالبا ينتظرني ولم ألقه منذ سنوات لا يليق أن أتركه ينتظر.

فاطمة: ساعة واحدة فقط

محمود: أتركه ساعة ينتظر؟ لماذا؟!

تنظر إليه فاطمة بنظرة طفولية لا تخلو من مكر أنثوي وتقول: أنا أم صديقك؟

يقول محمود في خيبة: يا إلهي ما مشكلتك يا امرأة؟ أخبرتك مرارا ألا تخيريني بينك وبين كل شيء لماذا تصرين على هذه الطريقة؟!

يقول هذا بينما يقوم بفك أرار قميصه وتسير هي على أطراف أصابعها ضاحكة نحو غرفة النوم.

في المساء ارتدى محمود ملابسه مرة أخرى ونزل إلى مقهى محروس ليرى إن كان صديقه القديم قد انتظره أم لم يحضر أصلا، وهو يتنمى ألا يكون قد حضر وانصرف بهذه الطريق المهينة..

سأل الفتى في المقهى فأخبره أن أحدهم جاء بعد العصر، سأل عنه وانتظره قرابة الساعة ثم انصرف..

شعر محمود بالضيق والحرج وهو يتمتم: أنا أم أمك؟ أنا أم صديقك؟ أنا أم كوب الشاي؟ تلك المرأة مجنونة بالتأكيد! لماذا تصر في كل مرة أنا تكون هي الأهم من كل شيء ولماذا أتبعها كالغبي في كل مرة؟! قاتل الله النساء!

طلب فنجانا من القهوة وجلس يرشف في ضيق، ثم رآه من بعيد.. نعم هذا فريد لقد عاد ربما توقع حضوره مساءً..

– فريد… فريد

تهلل وجه الصديق ضاحكا، شاب متوسط الطول أبيض البشرة كالأتراك لا يخلو وجهه من وسامة لم يعكرها أنفه البارز، تميزه تلك البشاشة المستمرة التي تجعله يبدو أصغر سناً من محمود، وقد تم كي ملابسه بعناية فائقة تعطي انطباعا بوضع مالي أفضل من حقيقته.

فريد: ما تلك الحركات يا رجل؟ أتخلف موعدك الأول معي بهذه الطريقة؟ أنا أخاصمك يا أسكتلندي

بدد المزاح توتر محمود فضحك بارتياح وجلسا يتسامران ويتذكران معاً أيام الجامعة وجموح الشباب.. كان فريد شاباً مشاغباً يحب المرح والمزاح والفتيات كان يحلم أن يصير نجما سينمائيا، لكن الحياة لا تسير بهذه الطريقة، فصار موظفا بهيئة المطابع الأميرية ولا يزال أعزبا.

انتهت السهرة اللطيفة واتفقا على تناول الغداء في اليوم التالي ببيت محمود ليتعرف على زوجته وليعوضه صديقه عن الموعد الذي أخلفه بوجبة منزلية بيد امرأة (بدلا من أكل الدكاكين) على حد وصفه..

٢

فاطمة: ألم يكن يتعين عليك إخباري من قبل، أو تأجيل الزيارة بضعة أيام كي أستعد بما يليق؟

محمود: فريد ليس غريبا.. سنأكل أي شيء كل ما تعدينه طيب، واشتريت لكِ رطلين من اللحم سيكفيان ويزيد.. وأنا أعرف أنكِ سيدة بيت ذكية وستتدبرين أمرك جيداً.. ما المشكلة؟

فاطمة: لا مشكلة، كما تريد..

محمود: لا تقلقي.. لن يكون ضيفا ثقيلا، فريد رجل صالح كما أنها زيارة وحيدة بمناسبة انتقاله إلى منطقتنا لن تتكرر كل يوم..

 يسمع الزوجان نقرا خفيفا على الباب، ها قد وصل الضيف.. يرحب به محمود في ود ويدخله إلى غرفة الجلوس، غرفة صغيرة بها صالون من أريكة وكرسيين فقط، فرش أخضر باهت اللون طلي خشبه باللون البني، ويتوسط الغرفة طاولة صغيرة عليها منفضة سجائر زجاجية وضعت فوق مفرش أبيض محاك يدويا بالكروشيه، ويبدو من عدم انتظام خيوطه وضعف دقته أن الزوجة هي من حاكته قبل الزواج.

يدرك فريد تواضع حالة محمود المادية فيشعر بالحرج من تلك الزيارة، لا بد أنها كلفت الزوجين ما ينفقانه في أسبوع، بدا عليه التوتر والضيق وهو يفكر في الأمر ثم دخلت الزوجة لترحب بالضيف.. امرأة جميلة حقا!

ارتدت فاطمة فستانا بلون النبيذ يكشف ساعديها وساقيها حتى أسفل الركبة، بفتحة مربعة واسعة تبرز طول نحرها بغير ابتذال، وحذاء عاليا أسود اللون.. دخلت مبتسمة بتحفظ، بقامة منتصبة سلمت على الضيف بيدها من مسافة جعلته يمد ذراعه لآخره بينما لم تتكلف هي عناء الاقتراب ولم تنحن على الإطلاق! لا بد أن لها أصول برجوازية.. كيف تعيش هذه السيدة في هذه الشقة المتواضعة؟ كيف أقنعها محمود بالزواج منه والتخلي عن مستوى أسرتها الاجتماعي؟ هو لا يعرف بعد أنها فاطمة (الكدابة) لكن صار يقتله الفضول!

انتهى الضيف والأسرة الصغيرة من الطعام، وجلسوا جميعا لاحتساء الشاي في غرفة الجلوس..

فاطمة: وماذا تعمل يا سيد فريد؟

يرد فريد مبتسما: أنا موظف بالمطبعة الأميرية.. وظيفة روتينية تماما يشبه كل يوم فيها اليوم الذي سبقه واليوم الذي يليه.. لكن الوظيفة الحكومية أمان كما تعلمين ولست ممن يعرفون شيئا عن التجارة لأجاري مسألة الانفتاح!

فاطمة: ولم تتزوج بعد؟

محمود ضاحكا: ولماذا يتزوج؟ لتبق أعزباً قدر المستطاع يا أخي.. اسمع نصيحة من أخيك ولا تفعل هذا بنفسك.

يضحك فريد في توتر، بينما تبتسم فاطمة بثبات كأن الأمر لا يعنيها ولم توجه إليها تلك الإهانة البالغة!

فريد: عندك الحق.. لكن اسمح لي لو أني وجدت زوجة كالسيدة في لطفها وطيب طعامها لم أكن لأتردد لحظة!

تهز فاطمة رأسها في رضا وعلى وجهها الابتسامة ذاتها بما أشعر فريد بالغيظ! هي لم تتأثر أو تشعر بالخجل النسائي المتوقع عندما تسمع امرأة إطراء من رجل تراه للمرة الأولى، لم تشكره حتى على المجاملة! فقط هزت رأسها موافقة كأن رضاها عما يقول يكفي!

والحقيقة أنه كان يكفي..

قال محمود ضاحكا: قلت لكِ أن فريد رجل صالح.. الآن قد تأكدتِ بنفسك وعرفت أنه ليس من هؤلاء الرجال.

فاطمة: حبيبي أتعرف أنه من السخف أن تصنف الرجال إلى رجال صالحين وغير صالحين؟ الناس إما ساحرون أو مملون!

محمود: وأنتِ ساحرة يا فيلسوفتي الحبيبة.. ونحمد الله أن ضيفنا ليس مملا!

ساد الصمت لثوان ثم ضحكوا جميعا..

قال الزوج: للأسف زوجتي الفيلسوفة الساحرة لا تستطيع عمل القهوة كما ينبغي وسأضطر لإعدادها بنفسي.. لا تدعها تصيبك بالصداع بالفلسفة حتى أعود.

ثم قام محمود وترك الضيف والسيدة جالسين في صمت..

بضع دقائق مرت، ثم نظر فريد إليها متحديا.. نظرت إليه مستفهمة، فقال بصوت منخفض قليلا وعلى وجهه ابتسامة ذات معنى: أوسكار وايلد

فاطمة: ماذا؟

فريد: من السخف أن تصنف الرجال إلى رجال صالحين وغير صالحين؟ الناس إما ساحرون أو مملون.. هذه لأوسكار وايلد.

في تلك اللحظة عاد محمود حاملا صينية نحاسية عليها موقد القهوة الصغير وعلب البن والسكر وثلاثة فناجين فوق بعضها يشكلون برجاً صغيراً..

فاطمة: احترس من التعثر بالسجادة ستسقطهم..

محمود: لا تقلقي حبيبتي.. أنا لست غرا دائما كما تعتقدين.

ابتسمت فاطمة ونظرت نحو الضيف فوجدته يتصرف بتلقائية ويمزح مع مضيفه، غرقت هي في أفكارها المتناقضة نحوه وظلت عبارته (هذه لأوسكار وايلد) تعيد نفسها في أذنها حتى قطع صوت فريد حبل أفكارها قائلا: لمن الشهادة المعلقة على الحائط؟

محمود: إنها لفاطمة.. فقد حصلت على شهادة الدكتوراه في الفلسفة وهي تعتز بها كثيرا.

فريد: مدهش! أعترف بأنكِ تفاجئيني يا دكتورة.

لكن فاطمة لم ترد.. ظلت جالسة تنظر إلى موضع قدميها على الأرض مبتسمة ابتسامة مفتعلة وبين يديها فنجان القهوة.. ثم قام فريد وتقدم نحو الإطار المعلق على الحائط.. إطار ذهبي رخيص بداخله شهادة ما كتب عليها اسم الزوجة بخط واضح، ثم اقترب ليتبين ما بها.. لم تكن إلا شهادة الثانوية العامة..

وانفجر محمود بالضحك!

شعر فريد بالحرج ونظر إلى صديقه منزعجا ثم نظر إلى فاطمة فنظرت إليه وابتسمت بينما تقاوم نكدها قائلة: كما ترى.. تركت الجامعة في عامي الثاني ليعوضني الله بالزوج الأظرف على الإطلاق! أستأذنك الآن فإني مصابة بالصداع، اعتبر البيت بيتك..

قال فريد بشفقة: يمكنني النزول وشراء بعض الأقراص لكِ إن أردتِ..

فاطمة: وماذا تفعل العقاقير مع الألم وهي ليست حاسمة كالرصاص؟

٣

قارس هو برد ديسمبر، الوقت ظهرا ومع ذلك لا شعاع شمس واحد يدفئها في طريق عودتها للمنزل حاملة طلبات الأسبوع.. يكاد ثقل حقيبتها يقطع أصابعها المتجمدة، بينما تحاول تدفئة اليد الأخرى بجيب صغير في فستانها دون جدوى، لكنها تتماسك وتسير باستقامة قامتها المعتادة عبر الشارع الضيق.

عادت إلى البيت لكنها عرفت أنه يوم لن يمر سريعاً، فقد ظلت تبحث في حقيبة يدها عن مفتاح الشقة ولم تجده، والبرد على السلم غير محتمل وهي لن تنتظر في الشارع..

تمتمت قائلة: هناك أيام ليست بالضرورة لي، وأيام بالضرورة ليست لي!

تقدمت من باب شقة السيدة (نجوان) وطرقت الباب..

نجوان هي امرأة أربعينية وهي صاحبة العقار، متزوجة من المعلم (صادق محروس) صاحب المقهى ولم تنجب، قصيرة القامة قليلا ممتلئة الجسم بيضاء البشرة.. تعيش معها منذ زواجها خادمة عجوز، تتشاجران معظم الوقت لكنها تعتز بها ولا تستطيع الاستغناء عنها.

فتحت السيدة نجوان الباب وبدا عليها التعجب أو الانزعاج.. فهي لم تتعرف بفاطمة من قبل ولم تزاورها لطبيعة فاطمة المتحفظة ولنظرة الاستعلاء التي تتعامل بها مع جاراتها عادة..

فاطمة: مساء الخير يا ست نجوان.. أعتذر من الإزعاج لكن يبدو أني نسيت مفتاح شقتي وخرجت لشراء الطلبات ولا أستطيع دخول الشقة ولا أستطيع الانتظار في الشارع..

نجوان: طبعا يا حبيبتي تفضلي أهلا وسهلا.. أكان يجب أن يكون حادثا لتتعرفي إلى جارتك؟ أهلا أهلا.. يا نبوية.. يا نبوية..

عفوا إنها امرأة صماء وقليلة الأدب، أستأذنك لدقيقة..

ذهبت نجوان تتشاجر مع خادمتها وتسبها لضعف سمعها وتمردها والتقليل منها أمام الضيوف، وفاطمة تسمع كل ذلك وتبتسم ابتسامة ساخرة بينما تجول بنظرها في المكان..

شقة نجوان بمساحة شقتها مرتين.. فرشت كلها بالسجاد وعلقت الثريات الكريستال من السقف وهناك العديد من الأشياء.. العديد منها فعلا فالمكان مزدحم بكل شيء.. مفارش وصور وتماثيل رخيصة، وراديو عملاق هناك..

ستائر منقوشة وحوائط منقوشة وكل شيء يمكن أن يضيف صخباً غير مبرر قد وجد هنا.. بالإضافة لرائحة البخور القوية القادمة من المبخريات النحاسية هنا وهناك.

 (الكثير من المال القليل  من الذوق)، هذا ما كانت فاطمة تفكر به عندما عادت السيدة بكوب من الكاكاو للضيفة وآخر لها..

نجوان: تفضلي يا بطة.. وكيف حال الأستاذ؟

فاطمة: بخير.. أشكرك

حاولت فاطمة أن تبدو لطيفة لكن الأمر ليس بيدها، هي غير معتادة تبادل الأحاديث النسائية ولا تعرف الاندماج في ثرثرتهن، هي تسمع وتبتسم وتفكر.. حتى بدأت السيدة تشعر بالملل، فقالت: سأذهب لتفقد المرأة في المطبخ قبل أن تحرق نفسها وتحرق الشقة.. امرأة خرفة لا يعتمد عليها لكن ما باليد حيلة، فأنا امرأة رومانسية وأنا أحبها..

الساعة الواحدة، وقد مرت ساعة على جلسة لم تعد تحتملها أي من المرأتين، وبدأت تبدو عليهما علامات الضجر.. ثم قالت نجوان بمرح مفتعل: اسمعي.. أنا سأدخلك إلى شقتك.

فاطمة: كيف؟ أمعكِ نسخة من المفتاح؟

ذعرت نجوان وقالت بعصبية واضحة: ولماذا تكون معي نسخة من المفتاح؟ ماذا تظنين بي؟

صدمت فاطمة من حدة رد الفعل واعتذرت عن سوء الفهم فقالت نجوان: بالطفاشة.. ألا تعرفين الطفاشة؟

نظرت إليها فاطمة وعلى وجهها نظرة اندهاش وإعجاب.. كم هي امرأة قوية نجوان هذه!

ذهبت المرأة إلى حجرتها لدقيقة وعادت وفي يدها مشبك معدني صغير يشبه مشبك الشعر لكن بطرف ملتوي.. صعدا معا إلى الدور الثاني حيث شقة فاطمة واستغرق الأمر بضع دقائق ثم انفتح الباب!

شكرت فاطمة السيدة ودعتها للدخول على استحياء فاعتذرت وعادت إلى بيتها.. نظرت إلى حلقة المفاتيح على الطاولة بغيظ، ثم هرعت إلى المطبخ لتسرع في إعداد الغداء بعد أن أضاعت نصف النهار في الزيارة العجيبة.

وقررت فاطمة ألا تخبر محمود عن الأمر..

 هي تعرف أنه سيوبخها وينتقدها لإهمالها وضعف انتباهها قائلا: كله من الكتب والمجلات التي أكلت عقلك.. فقررت تتجاهل الأمر برمته!

عاد الزوج من العمل حاملا على ساعده معطف الشتاء الثقيل، فوجدها قد شرعت في إعداد المائدة..

نظرت إليه فاطمة قائلة: ستصاب بالالتهاب الرئوي يوما ما بسبب إهمالك.. ما مشكلتك مع المعطف؟ أنا كدت أتجمد من البرد اليوم في السوق!

محمود: وأنا أعطيتك ثمن معطف جديد فأنفقته على كتبك.. ماذا يمكنني أن أفعل أكثر من ذلك؟

فاطمة: أنا لا ألومك! أنا أحذرك من البرد ما الخطأ في ذلك؟

محمود: الخطأ أنك تتصورين أنكِ تعرفين كل شيء وتتحكمين بكل شيء! أنا لست طفلا!

لم ترد وأكملت عملها..

 بعد الغداء استلقيا معا على الفراش، وقال لها: كيف فتحتِ الباب؟

فاطمة: أي باب؟

محمود: باب الشقة.. صباح اليوم بحثت عن مفتاحي فلم أجده فأخذت مفتاحك، وكنت متعجلا ولم أستطع إخبارك.. كيف فتحته؟

فاطمة: بالطفاشة..

انفجر محمود بالضحك قائلا: والله أنتن مجانين… وظل يضحك ويضحك!!

٤

تمضي الأيام على فاطمة بغير اكتراث بين ذهاب للسوق وإعداد للطعام وبعض القراءة ومناقشات زوجية تبلغ أحيانا حد الشجار وتنتهي أحيانا بالضحك..

تظل تؤنب زوجها لعدم ارتداء المعطف عند عودته، ولخروجه المتزايد ولسهره وأحيانا لسقوط رماد السيجارة على الأرض أو على الطاولة.. تعامله كطفل كبير وهو يسخر منها أحيانا وينصاع أحيانا ويضيق به الأمر فينفعل أحيانا..

لكن الأيام تمضي.. وتسير الحياة بالصبر وبعض الرضا وبقوة القصور الذاتي..

وها قد انقضى الشهر وغدا هو أول أيام العام الجديد.. انتهت فاطمة من تنظيف الشقة الصغيرة، وبينما تضع لمساتها الأخيرة، دخل الزوج حاملا معطفه بيد، وفي الأخرى علبة صغيرة لفت بعناية في ورق ملون..

محمود: كل سنة وأنتِ طيبة

ابتسمت فاطمة ابتسامة عريضة وانمحت فورا آثار الإرهاق من على وجهها وتناولت الهدية، كانت زجاجة صغيرة من عطرهها المفضل برائحة الورد.. ضحكت مبتهجة كطفلة وعانقته بشدة ثم منحته قبلة..

-شكرا يا حبيبي.. كل سنة وأنت طيب!

محمود: وأحضرت لنفسي زجاجة عطر رجالي برائحة الياسمين.. ما رأيك بها؟

فاطمة: ليس ياسمين يا عزيزي هذا عطر عربي.. ربما المسك؟

محمود: بل الياسمين.. رائحة الفنيك تشوش حواسك يا زوجتي الفيلسوفة

فاطمة: توقف عن السخرية.. هذا مسك

محمود: قد دعوت فريد للسهر معنا الليلة، ربما يحضر معه إحدى صديقاته

فاطمة: إحدي صديقاته؟

محمود: أو حبيبته.. لا أدري، عندما دعوته استأذنني في إحضار صديقة فرحبت على الفور طبعا..

ثم استطرد ضاحكا: أعتقد أن الأمر سيعجبك.. ستكون معركة متكافئة!

دخل محمود ليستحم وجلست فاطمة تتأمل زجاجة العطر وتفكر في ضيفتها التي لما تعرفها بعد، لم ترق لها الفكرة لكنها لم تجد مبررا للاعتراض وليس من اللائق أن تقترح إلغاء السهرة.. فضلا عن أنها ستثير ريبة زوجها وصديقه بغير داع.. ثم أنها رائحة مسك بالتأكيد هذا ليس عطر الياسمين!

في المساء ظلت فاطمة تتأمل فساتينها المعلقة قرابة الساعة.. تملكها الغيظ من نفسها لتكاسلها عن شراء فستان جديد، لم تعرف أن امرأة ستحضر إلى منزلها، بل ومع فريد!

ثم وصل الضيوف، أدخلهم الزوج غرفة الجلوس وعاد إليها ليتعجلها، فأصابها التوتر وأنهت زينتها بانفعال في بضع دقائق، ثم خرجت لتستقبل ضيفيها..

كانت بالغة البهاء في تلك الليلة، ارتدت فستانا كحليا قصيرا يكشف ساقيها وذراعيها، كانت ناهدة الصدر صافية البشرة تشع برائحة الورد!

دخلت إلى الغرفة في ثبات، فشخص نظر فريد واحمرت وجنتاه كالمراهق، بينما قامت صديقته بعفوية لتسلم على صاحبة البيت بود كبير..

اسمها (هند) وكانت فتاة في سن فاطمة تقريبا، في الثلاثين أو أصغر قليلا، بملامح دقيقة وبلا مساحيق تجميل، ترتدي تنورة برتقالية قصيرة وبلوزة صفراء تعج بالفراشات؛ وأصيبت فاطمة بالخيبة.. الفتاة لم تستحق كل هذا العناء!

رحب الزوجان بالضيفين وبدأت مراسم السهرة، فدخل محمود إلى المطبخ وعاد حاملا زجاجتي نبيذ وأربعة كئوس.. ثم بدأ المرح!

حوارات لطيفة دارت بين الأصدقاء حول كل شيء، واندمجت هند معهم كأنها نديمة قديمة، كان لها حضور واضح وصوت رنان يعلو على كل الأصوات عند احتداد النقاش، وكذلك كان صوت ضحكتها..

بعد الكأس الثانية، لعبت الخمر بالرئوس، سافرت بها بعيدا بقوتها الغامضة الملهمة المفجرة للغرائز والحقائق، تذيب بقوتها الثلج بينهم، وتحل أربطة الألسن.. بينما يشدو عبد الحليم بصوت لا يكاد يسمع من خلال الراديو الصغير: لولا ضحكتها الحلوة.. وعدتني بحاجات حلوة!

ظل فريد يتناوب مع محمود في إلقاء النكات السخيفة التي تدفعهم بفعل الخمر للضحك طويلا، وكلما ضحكت فاطمة، يصمت فريد عن الكلام ويستخفه الفرح، فتنظر إليه بابتسامة متفتحة تنجلي معها هموم قلبه وارتيابه من كل هذا المشهد العبثي! ساد الصمت لبضع دقائق وقد أرهق الجميع من شدة الضحك.. ثم قال فريد: آه.. ليت الشباب يعود يوماً!

محمود: أنت شاب.. أنت لم تدخل دنيا بعد!

فاطمة: وما قيمة الشباب بدون المال؟

فريد: في رأيكِ.. المال أهم أم الحب؟

هند: المال قبل الحب وقبل الشباب.. الرغائب لا حصر لها واليد قصيرة فلا تحدثني عن الحب أو الشباب.. المال يجلبهما معا.

محمود: أنتم تتطاولون على الشباب لأنكم شباب.. لنري ما رأيكم بعد عشر سنوات..

فاطمة: تتكلم كأنك جدي!

محمود: أنا سيد الشباب

فانفجروا جميعا بالضحك..

وقال فريد: فاطمة لم تجب.. المال أهم أن الحب؟

فاطمة: طالما نتحدث عن فرضيات جدلية لا معنى لها.. فأنا أختارهم جميعا..

محمود ضاحكا: امرأة طماعة!

فاطمة: أنتم لا تجرؤون على مجرد الحلم.. أنت ثمل عليك أن تحلم كما يجب!

تصفق هند وتضع إصبعين في فمها فتصدر صافرة عالية.. وتقف فاطمة لتنحني لها بطريقة مسرحية، ويضحك محمود عاليا..

ثم بدأ فريد يردد بصوت منخفض:

ما عالج الناس مثل الحب من سقم

ولا برى مثله عظماً ولا جسداً

ما يلبث الحب أن تبدو شواهده

من المحب.. وإن لم يبده أبدا

هند: شعر؟

فريد يضحك متوترا: نعم

هند: خبرني عن معناه!

ظل فريد يشرح المعنى لهند بينما ذهب محمود ليحضر بعض المخللات والفول السوداني لكسر حدة الخمر، وتنظر فاطمة في كأسها متأملة وهي تستمع إليهم..

هند: إذن أنت شاعر.. أم عاشق؟

محمود بصوت عال من الداخل: بل هو ممثل.. اعتاد إلقاء هذه الجمل على مسرح الجامعة وعلى أسماع الفتيات.. لا تصدقيه

فضحكت هند عاليا وقالت: يجب أن أذهب إلى الحمام وإلا لن تحمد العقبى..

تقول فاطمة بود: بالطبع..

ووصفت لها الطريق إلى دورة المياة، لن يصعب العثور عليها في شقة بهذا الحجم..

وقبل أن يدخل محمود بالصينية نظر فريد نحو فاطمة بجدية أقرب إلى الغضب.. وقال: بل عاشق!

قالت في هدوء: ما يلبث الحب أن تبدو شواهده.. من المحب وإن لم يبده أبدا

جميل، لكن لم الكتمان؟

فريد: ظروف.. وهكذا الحب في بلادنا

فاطمة: الحب أن تفصح وأن تتكلم مع من تحب.. أن تعيشه كاليقين بجوارحك

يبتسم فريد بخبث ويقول : جوهر الرومانسية يكمن في انعدام اليقين

تضع فاطمة ساقا على الأخرى وترجع بظهرها للوراء مستندة بذراعيها على مسندي الكرسي في نصر.. فنظر إليها فريد بعينين ثملتين تحاولان الفهم، ثم رفع كأسه فجأة وقال: في صحة أوسكار وايلد!

ثماقترب الصباح وبدأت الديكة في الصياح وقامت ثورة العصافير.. فقرر الأصحاب أن السهرة قد انتهت عند هذا الحد واستأذن الضيفان.. وقبل أن يصلا إلى الشارع كان الزوجان قد غرقا في النوم..

سار فريد وهند عبر الحارة الضيقة ومنها إلى الشارع الرئيسي وقبل أن يفترقا، أخرج جنيها من جيبه ومد يده به إلى الفتاة..

هند: اتفقنا على جنيهين

فريد: أنتِ صديقتي، وأكلتِ وشربتِ حتى الثمالة وقضيتِ ليلة رأس السنة في شقة محترمة مع أناس محترمين.. من الأصول أن ترفضي المال مقابل هذا الوقت اللطيف لا أن تساومي!

هند: والله إنك لص

فريد: هيا اشكريني وعودي إلى بيتك.. لا تكوني جشعة!

هند: لكني لم أفهم.. قلت أنك ستقدمني إليهما كخطيبتك.. اسمع إن كنت تخطط لعملية نصب ما فلا تورطني معك أرجوك

فريد: لا لا إنهما صديقين فعلا.. ولكني لم أستطع

هند: لا أفهم

فريد: هذا أفضل، هيا اذهبي..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى