من إشكاليات الترجمة الدينية.. المحذوف في سياق المصدر (25)

أ.د. عنتر صلحي | أستاذ الترجمة واللغويات – جامعة جنوب الوادي –

هناك تراكيب في كل لغة تبين خصوصيتها، يفهمها أبناء هذه اللغة إذا كانت من تراكيب العامية المحكية، ويدرسونها في المدارس إذا كانت من الفصيح المهجور في لغة الكلام. بعض هذه التراكيب قد يحذف فيها أجزاء من الجملة، وتظل مفهومة وواضحة. من ذلك مثلا حذف الخبر بعد (لولا) لأن الحال ينبئ عنه في جواب الشرط أو لأن التقدير هو (موجود). مثلا: قول الذين استضعفوا للذين استكبروا يوم القيامة: (لولا أنتم لكنا مؤمنين)، تقديره: لولا أنتم صددتمونا عن الهدى، لكنا مؤمنين، لأن الآية التالية تحكي رد المستكبرين على المستضعفين: أنحن صددناكم عن الهدى؟ ويمكن أن يكون التقدير: لولا أنتم موجودون.

كذلك هناك حالات يحذف فيها خبر كان، وحالات يحذف فيها اسمها ويبقى خبرها، وحالات تحذف كان نفسها واسمها ويبقى خبرها يدل عليها؛ مثل (اتخذ ولو خاتما من حديد) و(لا يأمن الدهر ذو بغي ولو ملكا..). أي ولو كان المتخذ خاتما، ولو كان ذو البغي ملكا.

وقد أدرك المترجمون طبيعة المحذوف في الآية الكريمة: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۗ بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًاۗ “.. لأن المعنى لا يكتمل في الأذهان دون استحضار المحذوف، وهو هنا إما : (لكان هذا القرآن) أو (ما آمنوا). ولذلك نص كل من ترجم الآية على المحذوف بين قوسين:

Sahih International: And if there was any qur’an by which the mountains would be removed or the earth would be broken apart or the dead would be made to speak, [it would be this Qur’an],

Pickthall: Had it been possible for a Lecture to cause the mountains to move, or the earth to be torn asunder, or the dead to speak, (this Qur’an would have done so).

Yusuf Ali: If there were a Qur’an with which mountains were moved, or the earth were cloven asunder, or the dead were made to speak, (this would be the one!)

Muhammad Sarwar: Even if the Quran would make mountains move, cut the earth into pieces and make the dead able to speak, (the unbelievers still would not believe).

Mohsin Khan: And if there had been a Quran with which mountains could be moved (from their places), or the earth could be cloven asunder, or the dead could be made to speak (it would not have been other than this Quran).

غير أنه ربما يأتي الحذف دون الارتباط بتركيب معين، ولكن يفهم المحذوف من السياق، وعندئذ لن تجد في كتب النحو ما يشفي الصدور عن سبب الحذف في هذه الحالة، ولا مناص من الاعتماد على السياق حينئذ، كما سنرى. وبعض أبناء اللغة بل بعض المتخصصين قد لا يدرك المحذوف، وبالتالي نتوقع مشكلات في الفهم، ومن ثم الترجمة.

 

نتناول الآية الكريمة:

وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل. (الشعراء : 22)

تأتي الآية في سياق أول لقاء بين موسى عليه السلام وفرعون… يذكر فرعون موسى (ألم نربك فينا وليدا)، ثم يذكره بقتله المصري، (وفعلت فعلتك التي فعلت…). فيكون رد موسى عليه السلام بتناول الجزء الثاني من كلام فرعون مباشرة بالاعتراف بالقتل (فعلتها إذا وأنا من الضالين)، ثم يعود للجزء الأول من كلام فرعون (ألم نربك فينا وليدا)، فيقر بهذه الفترة من حياته في كنف فرعون. غير أن الآية بها شيء عجيب، فموسى يقول (وتلك نعمة) يعني يعترف له بنعمة التربية له في طفولته، (تمنها علي) يعني يحق لك – يا فرعون- أن تمن علي بذلك، لكن الجزء الأخير غريب: (أن عبدت بني إسرائيل). وفي اللغة (أن) هنا تفسيرية؛ أن النعمة الحقيقية التي يحق لك أن تمن علي بها هي (أن عبدت بني إسرائيل). فكيف يكون تعبيد فرعون لبني إسرائيل نعمة يعترف بها موسى؟

إذا رجعنا إلى التفاسير، وجدنا معظمها يقول إن موسى هنا يسخر من فرعون؛ وكأنه يقول: أي نعمة تمنها علي وقد عبدت بني إسرائيل؟!… فكلام موسى سخرية من فرعون وتحقير لحجته التي يفخر بها أمام موسى إذ يعيره بفترة تربيته في قصر فرعون وبقتله المصري. والحقيقة أنه رغم أن هذا كلام معظم التفاسير إلا أن سياق الأحداث والتراكيب لا يخدم هذا المعنى؛ فهذا أول لقاء بين موسى وفرعون بعد الرسالة، وموسى قد أوصاه الله وأخاه (فقولا له قولا لينا)، فهليستهل الدعوة بالسخرية والتبكيت؟ بالإضافة لذلك فإن موسى كان يخشى من بطش فرعون (إنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى)، فهل يكون أول ما يقوله هو ما يثير غيظ فرعون وطغيانه؟

هذا من ناحية سياق الأحداث، أما من ناحية التركيب، فلا يمكن أن نغفل (أن) المفسرة، وهي التي تبين غموض ما قبلها، فهل هي تفسر أم تزيد الامر غموضا؟

فإذا طالعنا المزيد من التفاسير نجد رأيين آخرين؛ الأول هو قول الشيخ عبد الوهاب النجار في قصص الأنبياء (وهو أفضل مؤلف فكري كتب عن تاريخ الأنبياء في رأيي) أن المعنى هنا هو: أن النعمة التي تمنها علي هي أن تركت بني إسرائيل يعبدون ربهم، ولم تجبرهم على عبادة آلهة المصريين رغم قدرتك على ذلك. ويدلل على ذلك بأن الآية التالية يقول فيها فرعون: وما رب العالمين؟ فهو فهم من كلام موسى تعبيدهملربهم. كما يذكر الشيخ النجار أن التعبيد قد يقصد به التكريم، وساق على ذلك بعض الشواهد.

وهو رأي -رغم وجاهته- لا أقر له به لأن فرعون وإن كان قد ترك لبني إسرائيل عبادة ربهم فهو قد أذلهم وقتل أبناءهم، فأي تكريم في هذا؟

يتبقى الرأي الأخير والذي ذكره الإمام الطبري في تفسيره، وهو أن هناك جزءا محذوفا في الكلام؛ والتقدير: وتلك (أي تربيتك لي) نعمة تمنها علي أن عبدت (يعني استعبدت وأذللت) بني إسرائيل [وتركتني] معززا بقصرك.

وهذا المعنى يكتمل به السياق والتركيب كلاهما؛ فمن ناحية السياق، فرعون كان يعرف هو وزوجه وآله أن موسى من بني إسرائيل منذ وجوده بين الماء والشجر مغطى ببعض ثياب العبرانيين. وألقى الله محبته في قلب امرأة فرعون فتركوه دون قتل. فموسى يعترف بهذه النعمة أن فرعون كان قادرا على أن يستعبده مثلما استعبد بني إسرائيل لكنه لم يفعل ورباه مع أبنائه. كما أن اعتراف موسى هنا فيه موافقة لفرعون وإقرار على ما زعم (التربية الأولى وقتل المصري)، والإقرار والموافقة أقرب لتأليف القلوب والقول اللين بخلاف المخالفة والاعتراض والسخرية. ومن ناحية التركيب فإن عمل (أن) المفسرة هنا يوضح الأمر بجلاء.

فإذا كنا نحن أبناء اللغة قد اختلفنا في فهم الآية وتلمس المحذوف فيها، فما عسى يفعل المترجمون، والمفترض فيهم الإبانة و التوضيح؟ فللنظر:

Sahih International: And is this a favor of which you remind me – that you have enslaved the Children of Israel?”

Pickthall: And this is the past favour wherewith thou reproachest me: that thou hast enslaved the Children of Israel.

Yusuf Ali: “And this is the favour with which thou dost reproach me,- that thou hast enslaved the Children of Israel!”

Shakir: And is it a favor of which you remind me that you have enslaved the children of Israel?

Muhammad Sarwar: And this is the favor with which you oblige me: You have made the Israelites your slaves.

Mohsin Khan: “And this is the past favour with which you reproach me, that you have enslaved the Children of Israel.”

Arberry: That is a blessing thou reproachest me with, having enslaved the Children of Israel.’

من استعراض هذه الترجمات السبع، نجد أن الكل قد أجمع على ترجمة الكلام دون إشارة إلى المحذوف، مع ما في ذلك من تناقض، وقد أدرك البعض التناقض بين جزئي الآية، فوضع في النهاية علامة استفهام أو علامة تعجب، للدلالة على أن كلام موسى سخرية من فرعون وتبكيت له، والبعض الآخر تصرف في ترجمة (تمنها) بأن جعلها تعني التأنيب أو التوبيخ reproach,  أو القهر والإكراه oblige.  وكل ذلك للتخلص من عدم فهم المحذوف السياقي في الجملة.

والله أعلم.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى