صمت يا وطن.. مقطع من رواية قيد الكتابة (3)
هبة وفيق الأحمد | سوريا
أمّ ثكلى .. جدة تنوح وأخوة يبكون صغيرتهم التي فارقت الحياة.
والد يخفي دموعه “لأن الرجال لايبكون” كان يردد هذه الجملة باستمرار على مسامع أبنائه.
الأسود سيد الألوان ..سيد الموقف …يعم المكان؛أصوات النحيب تعج بالدار؛ أما صمت فحزنها مختلف …مختلفة بكل شيء حتى في حزنها .
لاتبكي ..لاترتدي الأسود ..لاتحب طقوس العزاء …حزنها يأخذ طابعاً آخر.
حزنها شريط ذكريات وحنين ..حزنها احتفاظها بحبات الرمل التي تحمل لمسات أختها ..-عقلانيتها ونضجها ولدا معها-.تضج بهم مذ نعومة أظفارها .
فقد كانت تدرك أن الإنسان لايستطيع تقرير عواطفه لكنه يستطيع أن يقرر مايفعل حيالها .
لم تستطع أن تلغي شعورها بالحزن والوحدة ؛لكنها قررت أن تلعب مع أختها كأنها حية لم تمت .حتى أنها تخيلتها بصحة جيدة ؛قلبها ليس بسقيم
كل تفصيل تخيلته عاشته ؛عاشت أحلاما ….خيالا….لبست روحاً…..قلبا
وحتى جسداً.
تذكرت كلمة أختها حين قالت لها “يوما ما “..لأن الأمر لم يقتصر على القلب بوجه الخصوص بل على “كيان ” بوجه العموم.
ابتعدت عن صوت النحيب…عن رؤية الدموع..فالبكاء وسيلة للتخلص من الحزن ة؛وسيلة للنسيان هم بمثابة ممرً آمن للإنسان يساعده ليتخطى الألم والحزن ؛ليغسل الذكريات والأرواح.
ابتعدت بصمتها ؛لم تبك اختها ..لم تنحب..فعي لاتشعر سوى أن جسدها قد غادر لكن الذكريات ..الحنين والروح ..مازالو بحوزتها .
هم كنز ثمين لن تتنازل عنه .لم يربكها ضجيج النحيب والبكاء .
طوال تلك الفترة اختلت بروح اختها ودخلت معها عالم الخيال والأحلام
الموت عند صمت هو فقد الإنسان لروحه ..لضميره..وليس لجسده ؛ فالجسد فان.
كل ليلة صعدت بسلالم نور وذكريات وخيالات جميلة ؛تلعب كعادتها مع روح اختها السليمة ؛تبتسم وتفرغ الوعاء..وتعيد تعبئته من جديد….
صمت بعمر السبع سنوات مازالت وفية لروح اختها فهي ركن في الروح ة؛ومفصل في الذاكرة .تلعب بحبات الرمل الذهبية كل يوم .
ملامحها بدأت تأخذ طابعاً هادئا ؛كل جمال الكون اختزل في وجهها الصغير..
من ينظر إليها لا يستطيع سوى أن ينطق بشكل عفوي جملة “ماشاء الله”؛ كانت تلك الجملة محطة فخر لوالديها وكأنهم هم الذين قامو بصنعها قطعة بقطعة .
في هذا العمر صمت كانت ترافق والدها بناء على إصرار منه إلى المُحترف .فوالدها فنان عظيم ؛يقوم بصناعة التماثيل ..تماثيل ضخمة .أحبت تمثال حورية البحر..تلمسته ..استعمت لحكاياته عن غموض أعماق البحار ..استمتعت بحكاياته عن غزواته ومغامراته..
كان وجه صمت يساعد والدها على الإلهام في إبداعاته …تفاصيل وجهها الصغير كانت تنقش على وجوه الحوريات وملكات روما..
في هذه اللجة كانت تكتفي بالسكون وتمعن النظر بالمحترف ؛ومعداته ..حبات العرق على جبين والدها ..والجص الرطب على يديه .تنظر وتلعب بخصلة شعرها الأمامية وتلزم الصمت .
والدها كثيرا ما تمنى أن تقوم بطرح الاسئلة ؛لكن صمت لا تسأل بل تكتشف ..
حاول التكلم معها أثناء خلطه للجص؛ تكلم عن الله كثيراً..وهي مستمعة من الطراز الفخم .
تبنت فكرته عن الله لأنها قد اكتشفتها من قبل ؛ فهي تؤمن بالروح لا بالجسد .تؤمن بالضمير ؛الحب ؛الرحمة؛والإنسانية ..
الله بين الضلوع …الله الضمير …الضمير الذي يردعك عن الشر ويحثك على الخير ..ليشكل منك إنسانا مختلفاً. ..وروحا مختلفة …
كثيرا ما كان يضع غليونه على الجهة اليمنى من شفته السفلية مرددا : “لو أن الناس جميعاً يلبون نداءات ضميرهم لكنا الآن جميعاً في المدينة الفاضلة التي تكلم عنها ابن خلدون لكن عبثاً…فنحن أشباه إنسان في داخلنا أشباه ضمائر..”
كانت تكتفي بالنظر إليه ملتزمة السكون …طفلة في عمرها بحاجة لقبلة على الجبين تربيت على الكتف …لمسة حنان ..هذا هو العدل …المساواة …الضمير …بالنسبة لفتاة في عمرها .
عند الإنتهاء من عمله كثيراً ماكان يردد ” هنيئا لي أني جلبت هذه الفتاة لهذه الحياة…أنت ملهمتي ياصغيرتي”.
أما صمت فكانت تكتفي بالخروج من المحترف كسجين أطلق سراحه تواً.غالبا ماكانت تعود للمنزل فتجد والدتها ملتحفة باللون الأسود تمسك بيدها اليمنى منديلا لتجفف دموعها وباليسرى باقة نرجس مستعدة لزيارة قبر ابنتها ..دعتها للذهاب معها أكثر من مرة ..لكن صمت تقابلها دائما بالرفض ..لاتحب زيارة القبور..لها فلسفتها الخاصة…فزيارة القبور بالنسبة لصمت هي اعتراف بالموت واستسلام له .