وهكذا تنهض الأمم
أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري
جلس مؤرخ واقتصادي يبحثان أسباب نهوض الأمم؛ فقال المؤرخ: إن لنهضة الأمم أسباباً أبرزها ما تلده الأمة من عظماء ونوابغ، والزمان شحيح في ولادتهم، فقد يمر العصر الطويل وهو عقيم، ثم يلد عظيماً فيغير وجه التاريخ، وكأن في يده عصا سحرية يحول بها الخمول نشاطاً والضعف قوة. والنوابغ يفرضون قوتهم وروحهم على الأمم فيسيرونها حسبما رسموا، ويملون إرادتهم على أحداث الزمان، فيتشكل التاريخ وفق أغراضهم، ويتحدد مستقبل أممهم بما نفخوا من روحهم، ونشروا من تعاليمهم، وأوضحوا من غاياتهم. وفي العادة يخلف هؤلاء العظماء النوابغ من يؤمن إيماناً تاماً بمبادئهم، فيسيرون على طريقهم، ويكملون ما شرعوا.
فَردّ عليه الاقتصادي قائلاً: إن العظيم لا ينزل بمظلة من السماء، أو يخرج فجأة من الأرض؛ فظهور العظماء والنابغين له قانون طبيعي،فهم نتيجة لا سبب، هم نتاج الحياة الاجتماعية، حيث تعتمل في المجتمع عوامل مختلفة، وأحداث تتفاعل، ونفوس تتهيأ؛ فإذا الأمة تتمخض عن نابغة، وهذا يعني أن الأحوال الاجتماعية أولاً والنوابغ ثانياً، وليس العكس. والحالة الاجتماعية إذا تهيأت واستعدت بحثت عمن يقود المجتمع وخلعت عليه الريادة، وإذا لم تتهيأ الظروف فلا نابغة، وهذا هو تعليل عدم الانتظام في ظهور النوابغ، فيظهر كثيرون في زمن، ولا يظهر أحد في أزمان.
ولا يمكن إنكار التأثير الكبير للنابغة، ولكنه لا يكون إلا بعد أن تتهيأ الأمة أولاً، ولو فرضنا أن النابغة خُلق وجاء لأمة على غير استعداد لتعاليمه لم ينل أية فائدة، وذهب كما جاء، إنما يفيد النابغة يوم يجد عقولاً خصبة كانت تترقب وجوده فتلتفّ حوله لتكون حواريه، يُصلح بهم أمته، ثم أمماً مع أمته.
ونوابغ المجتمعات هم الذين يأتون بالأفكار الجديدة غير المسبوقة، فيواجهون بالرفض الشديد، ومع ذلك تبقى أراؤهم، وتزداد قوتهم، ثم تكتسح أفكارهم الأفكار القديمة وتحل محلها.
وهناك من يرى أن المجتمع ليس سبب النهوض والتغيير، وإنما هو عامل القرار والثبات، فإذا كان في المجتمع قوتان: قوة الدفع وقوة التعويق؛ فالنوابغ هم الدافعون ومذللو العوائق، والحاملون للمشاعل، والمبدعون، ومشخصو المرض، وواصفو العلاج، والمجتمع هو متجرع الدواء.
ويبدو أنه قد غاب عن المؤرخ والاقتصادي شيء مهم للغاية، وهو الجانب الروحي في النابغة، فروحه تسعى دائماً لغايتها المرسومة التي رسمتها لنفسها، رغم ما تلقاه من معوقات خارجية تشدها إلى الواقع، فتكسر أغلالها وتتحرر من قيودها حتى تبلغ غاياتها، متمسكة بيقين راسخ أنها لا محالة منتصرة، ولهذا كان النابغة نابغة؛ فهو يجيد تجاوز العقبات ويبرع في بلوغ الغايات..وهكذا تنهض الأمم.