فكر

الهوية أو الهاوية (١)

رضا راشد | الأزهر الشريف

تخيلوا:
لو أن رجلا أسودَ اللون فاحما،دميمَ الوجه، قبيحَ الخَلْق، قصيرا.. قد استجمع كل مظاهر القبح في خلقه.. حتى ضاق صدرا بذلك؛ من أنه أصبح مثار لاستهزاء الناس به وسخريتهم منه، ثم عُرِض عليه أن يزول عنه كل ذلك، على أن يزول معه: اسمه، ورسمه، وشخصيته، وكل ما به قوام هويته. وذلك بأن يلقى عليه شبه من يراه أجمل الناس وجها، وأحسنهم صورة، وأكملهم خَلْقًا، وأزكاهم خُلُقًا.. حتى إذا رآه الناس توهموه الرجلَ الحقيقيَّ الذي أُلقِي شبهُه على صاحبنا الدميم الوجه، كان، والقبيح الخلق، كان والقصير القامة،كان؛ فنادوه باسمه ..فزال عنه -بزوال صورته وشكله وهيئته- كل مقوم لشخصيته وإذا هو بين الناس حي كالميت أو حاضر كالغائب، يحاول عبثا أن يقنع الناس بأنه ليس صاحب الصورة الجميلة، بل هو فلانٌ ابن فلان ،ولكن دون جدوى!! لن يصدق الناس ذلك .

تخيلوا لو أن ذلك يمكن أن يكون ،أترونه-لو كان عاقلا- يرضى بذلك؟
بالطبع لا، لن يقبل ذلك بتة ،لو أن فيه ذروا من عقل؛ لأنه مع شدة معاناته من قبح منظره ودمامة وجهه فإنه لن يفرط في شيء من ذلك ،حيث صارت تلك الهيئة عنوان ذاته وعلم شخصيته التى لن يكون له وجود إلا بها .

ولئن رضي بما عرض عليه من زوال شكله الدميم فرحا بحسن المنظر ،لكان حريا بأن يكون مضرِبَ المثل في القبح والسفاهة فيقال حينئذ فيه:أحمق من فلان؛ إذ توهم نفعا في زوال قبحه غافلا عن أن في ذلك موته، بزوال شخصيته ومحو هويته.

أرأيتم كيف صار المفرط في هويته مضرب المثل في الحمق، حين توهم نفعا في زوالها وثمرة في ضياعها؟

فكيف بالحسن الصورة، الوضيء الوجه المكتمل الخلق المتناسب الأعضاء؟! يعرض عليه أن يستبدل بكل ذلك ،كلَّ دمامة في الخلق، كانت، وكل قبح في الوجوه كان؛ فيلقى عليه شبه رجل قد قري القبح من كل جانب؛ إيهاما بأنه يمكن أن يكون يوما أحسن مما كان، فيهرع إلى الموافقة، ويبادر إلى الإجابة جريا وراء سراب زائف ومنفعة محتملة ؛مع ما في ذلك من بلويبن :أنه سيزول عنه الحسن المحقق ،كان ، والثانية: أنه ستزول عنه شخصيته ،وذلك هو الوأد الخفي .
***
(*) ذلكم الدميم الذي أبى أن يستبدل بدمامته وجها حسنا، وصورة وضاءة حين رأى في ذلك زوال شخصيته ومحو هويته =مثل الغرب الأوربي الذي صان هويته، وحافظ على شخصيته، ووقف بالمرصاد لكل محاولات الذوبان في شخصية الغير تحت أي مسوغ من ضعفه أو قوة ذلك الغير .حافظ على لغته، شودينه المحرف، وعقيدته التي هي وليدة الأهواء، وتاريخه المخجل بما نبت في جوانبه من جرائم يندى لها جبين الإنسانية، واقتصر اتصاله بالمسلمين على مجرد اكتساب علومهم دون التأثر بشخصيتهم وهويتهم، فحين كانت أوروبا تبعث بطلابها إلى الأندلس ليتعلموا هنالك (على عكس ما هو حاصل الآن؛ إذ انقلبت الموازين، فصرنا نحن الذين نبعث بطلابنا إليهم: تعلما، وتربية، والله المستعان!) لوحظ تأثر الطلاب باللغة العربية تأثرا دفعهم إلى تعلمها والتحدث بها عندما كانوا يعودون إلى بلادهم؛ مباهاة وافتخارا (إذ الشأن أن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب كما قال ابن خلدون)، فسرعان ما تدارك البابوات الأمر وأصدروا تحذيرا شديد اللهجة يتوعدهم بأنهم إن لم ينته هؤلاء الشباب الرقعاء عن فعلهم لَيَمْنَعُن من السفر مرة أخرى…ذلكم مَثُلُ الدميم الذي أبى أن تستبدل صورته بصورة حسنة لمّا كان في ذلك تضييع لهويته.
(*)وأما الذي استبدل بحسن صورته سوءَ منظر، وقبحَ هيئة، مع ما في ذلك من ضياع هويته وزوال شخصيته فغدا كالميت ؛جريا وراء سراب زائف=فذلكم مَثَلُ المسلمين العرب الذين يمتلكون هوية لها مقوماتها التى لا تدانيها مقومات: (دينا، ولغة، وتاريخا)، فرضوا مختارين، بل سارعوا مهرولين نحو الانسلاخ من ذلك كله ليذوبوا في غيرهم ،فأضحت لغتُهم لغتَنا (ممارسة) وتاريخُهم تاريخَنا: (اعتزازا به، ومعرفة به، ونشرا له)، وأخلاقُهم الفاسدة أخلاقَنا (تحليا بها)، وأعيادُهم أعيادَنا، وعاداتُهم عاداتِنا ،حيث لم يعد لمقومات هويتنا أثر واضح في تشكيل نمط حياتنا ومعالم سلوكنا ومعيشتنا، فلا غرو أن يتردى بنا الحال إلى مثل ما نحن فيه.

أيها المسلمون

استيقظوا من سباتكم، وثوبوا لرشدكم، وأعلنوها مدوية بلسان الحال قبل لسان المقال: أن نحن نحن، وتاريخنا تاريخنا، ولغتنا لغتنا، وديننا ديننا :تعلما لها وتعليما، وانتماء لها واعتزازا بها..إلخ.فإن فعلتم -وحق لكم أن تفعلوا- فالنجاح حليفكم والفلاح قرينكم، وإلا: فهو الوأد الجماعي لأمة خير البرية..التي كانت ذات يوم خير أمة أخرجت للناس .
فالهوية أو الهاوية
وماأدراك ماهيه نار حامية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى