فائض الهَمِّ والندم والدم
بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين
لم يقترب بعض العرب بل أكثرهم من التعبير عن ندمهم لما فعلوه في تاريخهم الأسود في الماضي، وما فعلوه وما زالوا يفعلونه في الحاضر، من هؤلاء على قلَّتهم عبّروا بحزنٍ شديد عن إحساسهم بالذنب لما ارتكبوه من أفعال اعتبرت عاراً أو خطاً، هذا الشعور بالذنب يعطينا دفعاً جديداً للمضي في الحياة على خطى أفضل مما كان. غير متناسين ما للهَمِّ من فعل يمكن أن يكون بندامةٍ وبغير ندامة. إذ أنَّ الندامةَ لا تكون بغير هَمَّ. فقد قال الشاعر العربي الكبير أبو الطيب المتنبي:
ماذا يَزيدُكَ في إِقدامِكَ القَسَمُ عُقبى اليَمينِ عَلى عُقبى الوَغى نَدَمُ
ما دَلَّ أَنَّكَ في الميعادِ مُتَّهَمُ وَفي اليَمينِ عَلى ما أَنتَ واعِدُهُ
لقد عانينا نحن العرب من الهزائم والتخلف والجهل وانتشار الأميّة عدّة قرون مرّت عبر مسيرة تاريخنا الطويل لأسبابٍ عديدة .وضعتنا في حيرة السؤال، وهو لماذا لم ننتج نحن العرب نظاماً واقعيا حداثياً في العصر الحديث على الرغم من امتلاكنا لعشرات الآلاف من كتب التاريخ والعلوم الإنسانية وكتب العلوم المتخصصة بأنواعها العديدة، والتي كانت يوماً نوراً وشعاعاً مشرقياً سطع على الغرب؟ .
هل نحن بحاجة لمراجعة تراثنا الفكري والتاريخي والسياسي والديني بشفافية، ومن ثم الوقوف على أسباب ضعفنا وقوتنا وأسباب انتصارتنا وهزائمنا مع الفهم والإدراك التام، وربطها بواقعنا المعاصر حتى نكون الأقرب نحو نهضة عربية منشودة في وطننا العربي.
كل ما نحتاجه هو إنتاج الإرادة القوية والفعل البَنّاء الذي يساهم في التغير البنيوي على مستوى الواقع مع مأسسة الأعمال المراد إنجازها حتى تستمر عبر الأجيال، فنصع التغيير والتطوير والتحديث. لذا فإنه من الضروري أن نبدأ بالتغيير عندما نفكِّربكل ما هو قائم بشكل واقعي وحقيقي للوصول إلى نتائج أفضل وأسمى .
هذا الموضوع يفرض علينا مزيداً من التساؤلات التي منها: هل ثمة متسع لمزيد من الوهن والتراخي والتآكل العربي الذي ما تزال خسائرة تتضاعف مراتٍ ومرات؟ وهل هناك أمة في العالم ادّعت في التاريخ أنها تعاني فائض الطاقة والهَمّ والندم والدم ؟
لم يعد بإمكان أي أكاديمي أو ناشط سياسي مهما كان بارعاً خداع طفل صغير في هذا المجال، لأنَّ الميديا قد طغت وغمرت العالم بمعطياتها ومعلوماتها المتدفقة كالسيل الجارف،ولأن ثورة المعلومات طغت على كل شيئ بانفجاراتها اللا متناهية ولأنَّ نشرات الأخبار المسموعة والمصوّرة والمقروءة ما تزال مستمرة وعلى مدار اللحظة، ومن يتهاون ولا يمكنه من مواكبة المستجدات والتطورات المتسارعة، ويركن إلى من ينوب عنه في الكثير من الأمور حتى لو كان الأصغر سناً بين الجموع، فإنَّ المفاضلة بين الاعتماد على النفس بمعزلٍ عن الوعي والمعرفة أمرٌ لا قيمة له، ونحن لا نعلم يقيناً لماذا يقلِّل بعض الناس من المعرفة والخبرة العالية لصالح اعترافات نظرية متوالية، فالامتحان في نهاية الأمر هو الذي سيقدم لنا نتيجة حكم الواقع، وما يظهر في ميدان الحياة، لكن انسياق البشر دون وعيٍّ أو بوعيٍّ مسبق وراء أيّ بريقٍ أو لمعانٍ هذه الأيام يصيب الناس بالحيرة والارتباك، وعدم التوازن، وبعمى الاندهاش المؤقت، وكأنَّ الزمن توقف لبرهةٍ غير قليلة.
وبما أنَّ العالم يتبدّل ويتغير باستمرار، ولا يدوم فيه شيء، ولا يبقى شيئ على حاله، فإنَّ النظرية اليقينية تؤكد أنَّ ما هو يقيني اليوم ليس يقينياً في الغد، وما يمكن أن يكون صالحاً بالغد لن يغدو صالحاً بعد أيام وأسابيع وأشهر، لذا فإنّ الشك بمفهومه الفلسفي يؤكد بأنَّ القضايا أو الأمور لا يمكن أن تُعرف على وجه اليقين والحقيقة .والتي أطلق عليها فلاسفة الإغريق القدماء اسم: (أكاتوليبسي Acatalepsy) أي (انعدام الفهم): وعلى رأس هؤلاء الفلاسفة زينوفوس ودمقراطيوس أصحاب المدرسة الهلنستية والتي اعتنق أتباعها الشكّ الفلسفي البيرونية نسبةً لمؤسسها الفيلسوف بيرو من إيليس.
نعم إنَّ العالم يتغيّر بسرعة، وهذا التبدّل والتغيّر من طبيعة التطور الإ نساني، الذي قلب اليقينيات إلى شكوك، وذلك منذ أن امتدت شكوك بيرو الإيليسي إلى أكاديمية أفلاطون الحكيم تحت حكم أرسيلاوس، الذي تخلى عن العقيدة الأفلاطونية وبدأ التشكك الأكاديمي، وهي المدرسة الثانية المشككة في الفلسفة الهلنستية .
والمعرفة ابستيمولوجيا Epistemology ليست تراكماً فقط كما نعلم، بل هي تصحيح دائم لمساراتٍ طويلةٍ ما كان لها أن تُمتحن لو أنها بقيت منسيةً وبقيت طي الأدراج وعلى الرفوف. وهناك ملاحظة هامة بدأت تطفو بتفاوت من خلال مقاربات اجتماعية وثقافية وسياسية، منها ما يقال عن التكرار في سجالات وتشخيصات، فهل يعني ذلك أنَّ العليل الذي فَقَدَ أمنه العلاجي أن يتوقف عن طلب العلاج، أم يبدّل العلاج نوعه وأسلوبه أم يكرِّره، لكن بعد انقطاعٍ يحدِّده الطبيب المعالج؟
لقد جرى الحديث مطولاً من خلال الروايات الشعبية الشائعة أنَّ هناك دواء سحري يؤدّي التداوي به إلى عودة المشيب إلى الشباب الأوّل شرط أن تكون الجرعات متوالية وعالية، ويعود ابن الثمانين إلى العشرين. ونذكر أن عدد كبير من الناس كانوا حتى وقت قريب أشد اهتماماً بصحتهم الجسدية والنفسية من استعادة مظاهر الشباب الأوّل وعنفوانه، التي قد تكون شيخوخةً هلامية ومموهة. ومن الواضح تماماً أننا أصبحنا نعيش زمناً مقلوباً يتفوّق فيه الشكلي على الجوهري واللحائي على النسغي، والطارئ على الثابت ،والعابر على المقيم الراسخ .