مفاهيم ومصطلحات استعمارية.. الفوضى الخلاقة (6)

إبراهيم محمد الهمداني | باحث وشاعر يمني

تتسم ممارسة التقنين المفاهيمي والطرح الاصطلاحي بخطورتها العالية وبكونها تتطلب توخي الدقة اللامتناهية في التحديد والتوصيف  لتحقيق أكبر قدر من الوضوح والتعيين، بعيدا عن اللبس والغموض والاشتباه، وتكاد تكون القصدية هي المعيار الأول والهدف الأساس في عملية التلقي المعرفي منذ أن علم الله آدم الأسماء كلها، وهذا ما لا يختلف عليه اثنان، لكن تجدر الإشارة إلى ضرورة توخي الحذر في تعاطي المفاهيم والمصطلحات الوافدة ، والتعامل معها والنظر إليها في إطار سياقاتها الواردة فيها، لمعرفة أبعادها ودلالاتها وأهدافها وجذورها المعرفية، وتجنب عملية التلقي السلبي والاستهلاك المعرفي المدجن.

ذلك لأن معظم المفاهيم تحمل في طياتها أبعادأ معرفية وفلسفية تحدد أنساق الإستعمال والسياقات التداولية المفترضة، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن الاستعمار حين يسعی إلى تكريس مصطلح أو مفهوم ما وتعميمه في سياقاتنا التداولية الحياتية، لا يفرض بذلك مجرد مصطلح لفظي قابل للاستهلاك العفوي، من قبيل الانفتاح على الآخر والمثاقفة وتلاقح الأفكار، وإنما هو يكرس ويفرض من خلال ذلك المصطلح ورؤية فلسفية وموقفا وجوديا وأبعادا براغماتية، تخدم مصالحه وأغراضه وتصب في تحقيق أهدافه، التي قد تكون القصدية والموقف من الآخر أقربها إلى الذهن وأسرعها تحققا، وبذلك ندرك أن القوى الإمبريالية تفرض علينا من خلال المفاهيم التي تصدرها لنا، عبودية معرفية وتبعية فكرية مطلقة، من منظور فلسفة الأنا المتعالية ، وادعاء الحقيقة المطلقة، وفي حال قمنا بإعادة إنتاج تلك المفاهيم بلا وعي بما تحمله من دلالات ومضامین بطريقة ببغاوية، فلن نكون إلا حيث أراد لنا المستعمر أن نكون.
يعد مصطلح نظرية الفوضى Theory chaos أو الفوضى الخلاقة Creative chaos من أكثر المصطلحات غرابة وتناقضا، فهو يحمل في طياته مضامين متناقضة تمام التناقض، حين يصف الفوضى بما تحمله من دلالات السلبية والهدم والفناء، بأنها خلاقة أي قادرة على الخلق بما يتضمنه من دلالات إيجابية حاملة للحياة والاستمرار، ولعل تأسيس هذا التصور المفاهيمي على تموضع التناقضات الجادة، ناتج عن مغزاه الفلسفي العميق، والتحولات والتطورات التي مر بها المصطلح في مسيرة الفكر الإنساني والأنساق التداولية التي حاولت تقريبه إلى ذهن المتلقي بهذه الطريقة؛ بهدف كسر الحدود والفواصل بين الخير والشر ، وتأكيد تلازمهما كثنائية وجودية منذ الأزل إلى الأبد، وأن العلاقة بينهما تكاملية أكثر من كونها بعيدة التواؤم مستحيلة الانسجام، وهي فلسفة هدامة وفكر شيطاني، يسعى إلى إيهام المتلقي وإقناعه بتماهي النقيضين في سياق واحد، تتجلى فيه خيرية الشر (إبليس)، وسلبية وشرور الخير (الله تعالى)، وتقوم هذه الفلسفة على كثير من المعتقدات الخاطئة والمقولات والرؤى القاصرة، التي حولت سير أغوار العلاقة بين الخير والشر من منظور فلسفي ومنطقي وأخلاقي، ونتج عنها هذا التفسير القائل بتماهي النقيضين واستوائهما وجودياً ودلالياً، والغريب أن هذه المقولة انتشرت في معظم المذاهب والأديان، لنرى أن من عبد الله رجاء خيره وثوابه، قد عبد الشيطان خوف شره وأذاه.
تعود الجذور الأولى لهذا المصطلح إلى أفلاطون الذي أشار إليه – بمعناه الإيجابي – في حديثه عن صيرورة الحياة وحتمية التحول الدائم، أي أن فكرة التغيير هي الركيزة الأساس التي قام بنيان هذا المصطلح منذ بداياته، إذ يعد – هذا المصطلح ممارسة فكرية ونظمة لاهوتية ومنهج نقدية بامتياز في وقت واحد، نظرا لما يحمله المعطي المعجمي لل Chaos من معان مرتبطة بالتصور الديني، الناصّة على السديم العدمي السابق للخلق، والفوضى والالتباس الحاد، ورغم استخدامه المتعدد في مجالات العلوم المختلفة، إلا أنه ظل محتفظا بسمته العدمية الفوضوية الهدامة في مختلف العلوم.
وبالعودة إلى السياق التاريخي الفلسفي للمصطلح ، نجده عند الفيلسوف الفرنسي «نيتشه»، مرتبطاً بكُنه الديانة اليهودية المحترفة الصهيونية – العلمانية، ذات البعد اللاهوتي الروحاني المقدس، الرافض لوجود الإله في نفس الوقت.
وقد انطلق نيتشه في احتفائه بهذا المصطلح من ارتباطه العميق بالتراث الصوفي اليهودي، وخاصة عقيدة القبالاة أو القبلانية، التي يصفها مايكل بيرج بأنها «هندسة مقدسة تمتلك فلسفة الحقيقة»؛ ولأن الفكر الديني اليهودي استطاع من خلال ممارسة الفوضى أن يفكك مقولاته ويهدم محظوراته ويتجاوز ذاته، ليقتحم كافة الميادين ويحقق حضوره الفاعل، وبذلك تحولت الفوضى إلى مبدأ أساس في صلب عقيدة القبالاة والتصوف اليهودي ، بشر من خلاله نيتشه العالم بالدور الكبير الذي سيمارسه اليهود مستقبلا في السياسة العالمية وصراع القوى، مؤكدا على الصبغة الكهنوتية للشخصية اليهودية وطابعها الانتقامي، بوصفه فعلا دينية روحية يعبر عن مدى حقدهم على العالم، وفي سياق تأكيده على قداسة الفوضى – بوصفها شعيرة دينية – يثني نيتشه على اليهود ويمتدحهم، كونهم استطاعوا التحرر من الأخلاق والقيم، ويرى أن «المتصوف اليهودي هو القادر على الفهم العميق للإبقاء على كل الغرائز وأفعال الانحطاط، ليسلطها بالتالي ضد العالم، لغرض الهيمنة عليه»، كما أن اليهود «هم الوحيدون القادرون على حماية أوروبا عن طريق اختراع شروط – وبشكل مستمر – حيوية ودينامية للتفاعل مع المستجدات العالمية».
وبذات القوة والأثر تمتد عقيدة الفوضى من القبالاة إلى فلسفة التفكيك، على يد الفيلسوف جاك دريدا، الذي جعل التفكيك فلسفة ونهجة، والفوضى مبدأ أساسا في كل مقولات فلسفته، التي أفادت كثيرة من طروحات نيتشه في صياغة وتحديد مقولاتها، التي نجملها على النحو الآتي : –
1- الاختلاف .
2- نقد التمرکز .
3- نظرية اللعب (التشظي الدلالي).
4- علم الكتابة و(المحو).
5- ثنائية الحضور والغياب. 
ويهدف التفكيك إلى هدم كل المراكز مطلقاً، وإنشاء مراکز صغيرة بديلة، ثم هدمها وإنشاء أخرى على انقاضها وهكذا إلى ما لا نهاية، وهذا المحور هو الركيزة الأساس التي تقوم عليها نظرية الفوضى والفوضى الخلاقة، التي تذكي نار الخلاف والاختلاف، وتسعى لهدم المركز والمراكز الصغيرة الناشئة على أنقاضه، وتحتفي بالهامش اللامتناهي وغياب الدوال، وسيادة المحو المستمر على الكتابة، وتغييب كل وجود فعلي إيجابي في كينونته أو معناه ، وهذه المقولات التفكيكية تتفق مع سياق أفكار وفلسفة نيتشه، إذ يرى ضرورة جعل الإنسان في صيرورة دائمة، بلا ذات أو استقلال أو حدود أو مركزية، بهدف «تحطيم الإنسان وتفكيك كينونته»، وهدمة مطلقا.
وبهذا ندرك أن نظرية الفوضى الخلاقة لم تكن وليدة الزمن الراهن، أو مرتبطة بتصريحات كونداليزا رايس – وزير الخارجية الأمريكية سابقا وخارطة الشرق الأوسط الجديد، أو بمرحلتها التنفيذية التمهيدية ممثلة بثورات 2011 م ، وإنما هي ذات أصول فلسفية لاهوتية، تنتمي – حسب دريدا – إلى العصر النووي ، المتسم بالتقنية والعلم والهيمنة، ويتسم خطابها بعدم امتلاكه أي معيار عقلي أو معرفي ، ولا علاقة لها بالأدب والإبداع والممارسات النصية والنقدية، وهذا الخطاب النووي التفكيكي تحتكره الولايات المتحدة الأمريكية فقط .. لماذا ؟؟ ! .
يمكن القول إن العلاقة بين الصوفية اليهودية واللاهوت الأمريكي، علاقة ارتباط وثيقة جدا ومتشعبة على كافة المستويات والأصعدة الحياتية، وأقرب وأوضح الأدلة على عمق تلك العلاقة هو الرعاية الكاملة والحماية الدائمة والدعم اللامتناهي سياسيا واقتصاديا، الذي تقدمه أمريكا للكيان الصهيوني الغاصب، من منطلق لاهوتي دیني بحت ، يتجلى من خلال إعادة قراءة مواقف أمريكا وسياستها الدولية، التي لا تنفك تعمل على صياغة وطرح القرارات السياسية الدولية الفاعلة التي تصب في مصلحة الكيان الصهيوني، وخدمة وتكريس وجود ما يسمى إسرائيل، انطلاقا من تصورات اللاهوت اليهودي لطبيعة العلاقة مع أمريكا ومدى نجاحه في اقناع اللاهوت الأمريكي بأن « الرب يبارك أمريكا ، لأنها تدعم إسرائيل، وأن الأمريكي الحقيقي لا بد أن يكون صهيونية، وأن الرب يبارك من بارك إسرائيل، ودعم أمريكا لإسرائيل رسالة إلهية يرضاها الرب»، الخ
وتعد الفوضى الحاصلة الآن في المنطقة، إحدى أهم استراتيجيات أمريكا لخدمة الكيان الصهيوني، وتحقيق مشروعه الإمبريالي، وكذلك الشأن بالنسبة لمراكز إدارة الفوضى وخبرائها، فهم أيادٍ أمريكية خالصة، مهمتها تنفيذ المشروع الصهيوني في العالم والمنطقة العربية بالذات.

وإذا ما علمنا أن الكيان الصهيوني يحكم العالم من خلال أمريكا، وأنهما ماضيتان في تحقيق مشروعهما الاستعماري، وأن الأمم المتحدة لا تعدو كونها إحدى أدوات الاستعمار، وأقدم فزاعاته لإخافة الشعوب بقراراتها، فما الذي أعددناه لمواجهة هذه القوى الإمبريالية المتسلطة، وهل سننتظر حتى يكتمل مسلسل التفكيك، ونصبح ضمن تفاصيل تراجيديا المشهد الأخير وموسیقی الختام؟.
وهل سينتهي بنا الأمر في أحسن الأحوال إلى التطبيع مع إسرائيل بوصفه الحل الوحيد والخيار الذي لا مناص عنه، حيث تبنت الإدارة الأمريكية طرحه، وتبنت الأنظمة الخليجية الترويج له تحت مسميات وذرائع مختلفة أحياناء ودعت إليه صراحة من قبيل التعاطي مع الأمر الواقع أحيانا أخرى والسؤال الذي يطرح نفسه: هل التطبيع فعلا هو الحل؟ وهل كانت العلاقة بيننا وهذا الكيان الغاصب طبيعية يوما ما؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى