قصة القانع والطامع!
توفيق أبو شومر | فلسطين
سأختار في مقالي هذا نصَّيْنِ مختلفين لمبدعٍ عربي واحدٍ، النص الأول، كُتِبَ المقالُ في أشهر المجلات العربية وأكثرها انتشارا، صدرت قبل تأسيس إسرائيل بخمس عشرة سنة، كان من أبرز الكُتاب فيها، طه حسين، العقاد، الرافعي، أحمد أمين، عبد الحميد يونس، أحمد زكي، المقال بعنوان (فلسطين) قال مُحرر الصحيفة: «لكِ اللهُ يا فلسطين، بينَ حديد الانتدابِ البريطاني الذي يأكلُ الأجسامَ وبين ذَهبِ الصهيونية الذي يأكلُ الأرض، يعيش العربيُ في فلسطين عيشَ المحكومِ عليه بالقتل أو النفي، إذا سَلِمَ له بدنُهُ، لا يسلم له وطنُه، (البريطانيون) أمةٌ من أسبق الأمم قِدَماً في الحضارة، تسير على دستورٍ، لم يمنعها هذا الموروث أن تبيعَ فلسطين العربية جهرا لليهود، (وعد بلفور)!
وليس العربُ من مماليك بريطانيا، ولا فلسطين من أملاكها، هي تُمثِّلُ تحت العلم البريطاني أروع مآسي النذالة!
إنَّ كلُّ شبرٍ من الأرض، يخرجُ من يد العربي، يدخل إلى الأبد في الوطن اليهودي، ويومئذٍ لا يَرُدُّهُ إلى أهلِهِ احتجاجٌ أو تظاهُر!»
(مجلة «الرسالة» عدد 23 يوم 11-12-1933 بقلم رئيس التحرير، أحمد حسن الزيات).
أما النصُّ الثاني فهو قصة، القانع والطامع، قال المبدعُ نفسُه:
«رآني، الشيخُ، منصور بالأمس جالسا في مكان ضاحٍ من القهوة، أنقعُ في أشعةِ الشمسِ جسديَ المقرور، وعليَّ من ثيابِ الشتاءِ لفائفُ فوقَ لفائفَ، فأقبلَ يطفُرُ طفورَ الظبيِ بين مناضدِ القهوة المصفوفة، وليس على جسمِه سوى غلالةٍ بيضاء من التيل (الخيش).
جلس مُتهللَ الوجهِ، يكاد إهابُهُ من فَرطِ المرح أن ينشقَّ، فلما تكلَّم وجدْتُه على ما عهدتُه من فراغِ البالِ، وسلامةِ الصدر، وقلةِ المبالاة، قلتُ له: «أفي هذه السنِّ لا أرى للخبزِ المخلوطِ أثرا على وجهِك، ولا أسمعُ للمجاعةِ ذِكرا على لسانك؟!
قال الشيخ منصور: «والله ما أكلتُ خبزا نقيا من قبلُ حتى أشكوَ خَلطَهُ، وفي بعض الساعاتِ أشعرُ أنَّ اللهَ قد منحَ الفقراءَ الصحةَ ليزيدَ ألمَهم من الحرمان، ولكنني حينَ أُسَكِّنُّ أطيطَ أمعائي بفطيرةٍ من الذُّرة، وطبقٍ من المِشِ، ورأسٍ من البصلٍ، وحُزمةٍ من السريس (الهندباء) ينمحي ما صوَّره الخيالُ في ذهني مِن أطيبِ الأكال، وأعذب الأشربةِ، ثم تُنشرُ على بدني حرارةُ العافية، فأرى الجمالَ في كلِّ منظرٍ، والنعيمَ في كل شيءٍ، واللَّذةَ في كلِّ عملٍ.
يجوعُ الغنيُّ مثلَ جوعي، ولكنَّه لا يشبعُ مثلَ شبعي، فمعدتُهُ المُترفةُ بالشبعِ مُتخمةٌ بالعُسرِ الطويل، وهو فاقدُ الشعورِ بالدنيا لِشدَّةِ ما يَلقى من حَرَّةِ الحُموضةِ، وثِقلِ الطعامِ، وضِيقِ النفسِ، وضربات القلبِ!
ذاتَ يومٍ قلتُ للباشا الذي أنكرَ حقي بعد أن عملتُ عنده أجيرا: إنك قد بلغتَ أرذلَ الغِنى، ثم انحدرتَ إلى أسفلِ الفقرِ، فأنا وأنتَ يا باشا سَواءٌ؛
أنا فقيرٌ لأني مُصابٌ في جيبي، وأنتَ فقيرٌ لأنكَ مُصابٌ في معدَتِكَ.
أنا أشتهي ولا أجدُ، وأنتَ تجدُ ولا تَشتهي.
ولكنَّ حرمانيَ مؤقتٌ وحرمانك مؤبدٌ.
ونقصيَ يَسُدُّهُ الرضا، ونقصُكَ يَزيدُهُ السُّخْطُ.
وجيبيَ المفتوقٌ يرتُقُهُ الرفَّاءُ بقرشٍ، ومعدتُكَ الباليةُ لا يُجددها الطبيبُ بمليونٍ»
(النص للكاتب نفسه، أحمد حسن الزيَّات، رئيس تحرير صحيفة «الرسالة» المصرية عدد 448 يوم 2-2-1942م، مع الاعتذار للتصرف في بعض الكلمات والتعبيرات)
طلبَ مني أحدُ المتابعين أن أُكثر من اقتباس النصوص الجميلة المُحبَّبة في تراثنا العربي، كتب في رسالته يصف فيها كُرهَ ابنه الطالب في المرحلة الثانوية لدروس اللغة العربية المقررة على الطلاب في مدارسهم، وهي مقرراتٌ صعبةٌ منفرة، وهو يرغب في أن أُرشده إلى مواطن الجمال في لغتنا وأدبنا العربي، وأن أختار له نصوصا جميلة يضعها أمام أبنائه ليحفظوها بمتعةٍ وليس تحت وقع عصا المدرس أو رعب الاختبارات النهائية، لغرض تقويم ألسنتهم، ودفعهم لحب لغتهم، لأن حبَّ اللغةِ هو حُبٌّ للوطن!
ما أكثرَ مواطن الجمال في لغتنا العربية، وما أقلَّ الغواصينَ الباحثين عن لآلئها ودُررِها النفيسة، بديعة الجمال!