الإبريق النحاسي الذي لا يعرف الكلام.. قصة قصيرة

شوقية عروق منصور | فلسطين

 

توجه إلى زاوية الغرفة.. حيث كانت الصينية النحاسية تحضن الإبريق النحاسي المزخرف بالآيات القرآنية والنقوش التي تصور بعض الأزهار المحفورة بدقة وصبر.

يلتف حول الإبريق أحد عشر فنجاناً من النحاس بعد أن غاب الفنجان الثاني عشر، دائماً كان يتساءل أين ذهب الفنجان الثاني عشر؟ بقي هذا السؤال معلقاً في خيالاته، ومع مضي الوقت لم يعد يهتم للفنجان الغائب، فقط كان يطمئن على وجود الفناجين جميعاً مع الإبريق والصينية في إحدى زوايا غرفة الضيوف.
– يذكر كان يجلس أمام زوجته كلما أرادت تلميع النحاس بالليمون والرمل، ينتظر على الشرفة في الظل حتى تجف الصينية والإبريق والفناجين تحت أشعة الشمس التي تحول لون نحاسه الذي أصبح قريباً إلى السواد إلى بريق يشع بهجة وفرحة.
– بكره راح آخذ طقم النحاس على المدرسة معي.. راح انحطوا بالمعرض الخاص بالتراث الفلسطيني!! لما قلت للمعلم في بيت جدي طقم نحاس من قبل الحرب قال لي هاتوا..!! راح يحطوا في أحسن مكان في المعرض.. وبكره بتحضر إلى المدرسة وتحكي لنا عن التراث الفلسطيني.. احكي عن قصة الفناجين والإبريق ، فأنت دائماً تقول وراهم قصة، وقد قلت للمعلم جدي بدو يحكي قصة.. !
– شو بدي أحكي يا جدي .. شو راح أحكي .. !
حاول التهرب من حفيده الذي التصق به، يتوسل إليه، هو يعرف حفيده جيداً يريد أن يكون بارزاً ويغيظ أبناء صفه، فهو سيستغل وجوده لصالح رفع رصيده في الصف والمدرسة.
– سيأتي وزير المعارف لافتتاح المعرض، قال الحفيد لجده ..!
الحفيد يستغل آخر قطرة توسل، يحاول مد حبل الإغراء للجد، زيارة وزير المعارف الحبل الذي سيدفعه للذهاب إلى المدرسة، سيذهب ويحكي قصة الإبريق أمام الوزير.
في الصباح استيقظ الجد.. وجد الحفيد أمامه .. قال الجد:
– صعب عليك حمل الإبريق النحاسي والفناجين والصينية ، النحاس ثقيل ..!
وضع الجد الفناجين في علبة وربطها، وطلب من الحفيد الأكبر حمل العلبة وحمل الصينية باليد الثانية، وشقيقه الصغير سيحمل بيده الإبريق، وبعد ساعة سيلحق بهما إلى المدرسة.
أشعل سيجارة كان قد لفها مساءاً ولم يدخنها، لأن حفيده قد ورطه بقصة الفناجين.. ماذا سيقول لطلاب المدرسة؟؟

هل سيقول إنه سرق هذه الفناجين بعد أن طلب منه الرجل اليهودي الدخول إلى أحد البيوت في مدينة اللد .
كان شاباً صغيراً لم يطلع شاربه بعد، يقال إن عمه كان يتعامل مع اليهود قبل 48 ، لذلك بعد النكبة أصبح عمه يعمل معهم على المكشوف، وعندما طلب والده من عمه عملاً لأبنه، كان العمل جاهزاً في اليوم التالي، عليه مرافقة بعض رجال الأعمال اليهود الذين يعاينون البيوت التي تركها أصحابها، يسرقون الأثاث ويقومون ببيعه في الأسواق.
وجد نفسه مع بعض الشباب الذين يدخلون البيوت بعد أن يدخلها هؤلاء الرجال، حيث يقومون باختيار الأثاث المناسب للسرقة، وعليهم هم أي الشباب نقل الأثاث والاغراض إلى السيارات التي تحمل الأثاث إلى جهة لا يعرفونها .
في أحد الأيام عندما دخل إلى بيت ما زال يحمل رائحة العز والغنى، صعب عليه نزع الأثاث من مكانه، شعر بحريق يشب في صدره، لكن صراخ الشاب الذي يعمل معه، طالباً منه العمل بسرعة أيقظه من شعوره الكاوي فمن حق الشاب الصراخ عليه لأن اليهودي منحه صفة المسؤول عنه.

صوت المسؤول جعله يهرع ويحمل الكراسي و.. توقف عند الصينية التي تتوسط الطاولة، عليها الإبريق النحاسي والفناجين، لا يستطيع وضعهم في السيارة وترحيلهم إلى جهة مجهولة، برقٌ من الإحساس الغامض لمع في جسده المرتعش من التعب، قرر سرقتهم! لكن كيف؟ سيراه الشاب الذي يعمل معه..!
انتظر دخوله إلى المرحاض، سرق الصينية والإبريق والفناجين بسرعة، قام بإخفائهم خلف الأشواك والأعشاب التي تحيط بالشجرة المزروعة في حديقة المنزل.
عمله سيكون في هذه الحارة، سيتسلل كل يوم ويضع في سلة الزوادة قطعة، وهكذا كان كل يوم يأخذ قطعة، حتى اكتمل الطقم النحاسي لكن اكتشف أن الفناجين أحد عشر فنجاناً، وهمس لنفسه.. لعل صاحبة البيت أخذته معها في لحظة هروبها ، أرادت أخذ شيئاً من رائحة البيت. !!
مئات الصور تدفقت جميعها حول الفنجان الهارب من المجموعة، لكن بقي سر سرقة الإبريق والفناجين والصينية محفوظاً في ذاكرته.
عندما تزوج وضع الصينية والإبريق والفناجين في زاوية بارزة في غرفة الضيوف،، يراها كل من يدخل الغرفة، تلفتُ نظر الضيف، حين تستقبله الصينية بلمعانها و زخرفتها.
ولم يقل حكايته لأحد حتى لزوجته التي توفيت وتركته لوحده، وبقيت الصينية مكانها لم تتحرك، حتى عندما ترادت زوجة ابنه أن تغير ديكور الغرفة ووضعها في مكان آخر، حمل الصينية وأعادها مكانها، مما أغضب زوجة الابن التي طعنها في ذوقها، وأطلقت كلمة ”بلاش” وهي خارجة من الغرفة، وإمعاناً في ”بلاش” لم تعد تنظف غرفة الضيوف.
إنه في حيرة.. ماذا سيقول لطلاب المدرسة؟ هل سيكشف الحقيقة؟ لا .. سيحكي قصة أخرى غير القصة الحقيقية، فالإبريق لا يعرف الكلام، ، أما الصينية فهي مستسلمة وكذلك الفناجين فهم في حالة استرخاء، يستطيع تأليف قصة جديدة .
وقف الجد أمام الطلاب، اخترع قصة أخرى، قصة أحد الباعة الذي جاء إلى بلدته متسللاً وقام ببيع الطقم النحاسي بمبلغ كبير حتى يعود إلى عائلته التي تعاني من الجوع في أحد المخيمات الفلسطينية في لبنان ، آنذاك كان النحاس غالياً وله قيمته، وقد قام الجد ببيع البقرة التي يمتلكها لشراء الطقم النحاسي.
وبطريقة تمثيلة أخذ يتكلم عن البقرة الضحية التي بيعت وذبحت من أجل الفناجين والإبريق والصينية.
سمع هرج ومرج، تحرك المعلم الواقف إلى جانبه، فتح أحد التلاميذ الباب وصرخ بأعلى صوته:
– أجا وزير المعارف.. أجا وزير المعارف ..!
وقف الجد بعيداً يراقب الوزير الذي يحاول التكلم باللغة العربية مجاملة لوجوده في المدرسة العربية، لكن عندما سمع المدير يرحب به باللغة العبرية تراجع وأخذ يتكلم بالعبرية.
قام الوزير بتأمل المعروضات، أشغال يدوية، تطريز ولوحات ومجسمات كرتونية، ابتسامته البلاستيكية لم تفارق شفتيه، رسمها بقلم الملل الذي يضعه في جيبه، فهو يوقع بواسطته على زياراته الروتينية.
نظراته المتأففة تسير بسرعة فوق الطاولات التي تعرض المشغولات، يسحب كلمات المجاملة الباردة من حنجرته المهترئة من شدة جلدها بسياط النفاق، والمدير يلف ويدور حول المعروضات.. يشرح له، وأحياناً يحمل قطعة ويقربها من أنف الوزير، والوزير ينتشل نفسه من بحر المجاملات ويرسم الابتسامة التي لو تأملها المدير والذين يسيرون خلف الوزير وأمامه لعرفوا أنه يختنق ويكبت مشاعره.

وصل إلى الصينية والإبريق والفناجين، انفجرت ابتسامته، أمسك بالإبريق، وأخذ يقرأ الكلمات المكتوبة باللغة العربية، لقد انبهر بصنعه وجماله وبدقة الرسومات التي تحيط بالإبريق، تعمد الوقوف أمام الفناجين التي تحمل أيضاً بعض الكلمات، وأخذ يقرأ، أما الذين يحيطون به، فقد فرحوا لأن هناك شيئاً أدخل السرور إلى قلب الوزير، وهذا سيمنح المدرسة شهادة شرف وتألق .
سأل الوزير المدير:
– ومن أين أتيتم بهؤلاء؟ أشار إلى الإريق والفناجين والصينية .
نادى المدير على الجد، وقف الجد أمام الوزير .. سأله الوزير من أين اشتراه؟ فحكى له قصة بيع البقرة.. لم يستطع قول الحقيقة، سيتهمونه بالسرقة حتى لو بعد مئات السنين .
همس المدير بأذن الجد.. لماذا لا تمنح الطقم النحاسي هدية للوزير؟
حاول الجد التجاهل ..! سمع الوزيرالكلام فضحك، ربت على كتف الجد. لم يجد الجد امامه إلا الصمت . . والصمت في عرف وعالم المسؤولين هو علامة الموافقة والرضى .
قام المدير بلف الصينية والإبريق والفناجين بسرعة وسلمها هدية للوزير ..!
– تفضل يا سيادة الوزير هدية المدرسة .
بعد أن ركب الوزير السيارة وغادر ساحة المدرسة ، قدم المدير للجد مبلغاً من المال ثمنا للإبريق والصينية والفناجين، لكن الجد وضع المبلغ المالي على الطاولة وخرج
سرق الصينية والإبريق والفناجين قبل عشرات السنوات، حافظ عليهم، والحفاظ كان بالنسبة له، رسالة للعائلة التي تركت بيتها فسرقوه، كان يريد أن يبلغ العائلة، هناك شيء محفوظ، شيء باقٍ لم يُسرق.
ها هم يسرقون آخر دليل لعائلة كانت موجودة فتح بوابة المدرسة وخرج يجر جسده المتعب كأنه كان في سباق لركض المسافات الطويلة، سمع بواب المدرسة يصرخ بأعلى صوته وبغضب:
– سكر البوابة ..ليش خليتها مفتوحة …! –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى