عقدة اليتم في رواية – وجع بلا قرار – لـ” كميل أبو حنيش “
رائد محمد الحواري | فلسطين
نحن بخير ما دام فينا من يكتب ادبا، من يحدثنا عما نحمله في العقل الباطن من حاجات/رغبات، من يكشف لنا مكامن العاطفة التي تحركنا/تجعلنا نتجه هنا أو هناك، من يتناول الحداث/الشخصيات من أكثر من زاوية، من يقدمنا من الواقع لنفهمه، من يستطع الدخول إلى نفسية المهزوم ليعرفنا على الألم الذي يتعرض له، والسياط التي يجلد بها نفسه، من يكتب عن الوفاء والاخلاص في زمن أوسلو والعولمة.
هذه الرواية الثانية بعد رواية “باسم خندقجي” “نرجس العزلة” التي يكتبها أسير فلسطيني يكون فيها عقله الباطن هو سيد الموقف، فيحدثنا عما يحمله من عاطفة، بعيدا عن صورة البطل المطلق، ف “علاء” إنسان، يفرح ويحزن، فاعل وساكن، لهذا هو قريبا جدا منا، لقد استطاع “كميل أبو حنيش” أن يقدم عملا أدبيا بصيغة جديدة، يحمل بين ثناياه عقدة اليتم وأثرها عليه، فنجد بطله “علاء” يميل إلى أخته “كوكب” كرد لا شعوري عن فقدانه الأم، ونجد أثر هذا اليتم من خلال علاقته ب”أنهار” التي أردها شريكة حياته، فعلاقة “علاء بالمرأة علاقة حميمة، حتى أنه تجاوز كل الظلم والقهر الذي سببته له “سهام” زوجة الأب.
ونجد هذا الأثر من خلال موت/استشهاد ثلاثة ممن أثروا عليه، رفيقه “رامي” الذي استشهد هو ما زال فتى، و”سامر” الذي استبسل معه في المقاومة، ومعلمه “أيمن” الذي مات في دبي، بعد أن غير مسار حياته من النضال إلى جمع المال، من الثورة إلى الثروة، ويمكننا أن نضيف أن موت حبيبته “أنهار” أنه ناتج عن عقدة اليتم، وكأن السارد ـ في العقل الباطن ـ يريد أن يستمر في تألمه لفقدانه المرأة، فقد تكيف مع هذا الأمر منذ ولادته مباشرة.
هذا ما يقدمه لنا الراوي في رواية “وجع بلا قرار” فالعنوان يوحي بوجود ألم بلا نهاية، ألم مستمر، يعيش مع “علاء” وهو ما اشار إليه عندما استحضر ملحمة الإله “بعل: والإله “تموزي” وكأنه أريد من خلالهما أن يؤكد على طبيعة الصراع في الحياة، وعلى حالة الألم التي تلازمنا.
وهنا نطرح مجموعة أسئلة: ما الداعي لمثل هذا الطرح، إن كان بوعي من السارد أم بغير وعي؟، وما هي الفكرة التي يمكننا أن نستفيد/نصل إليها من خلال طرح موضوع اليتم والحرمان؟، وهل لهذه الفكرة علاقة بواقع الأسير في المعتقل؟.
اعتقد بأن الجوانب الإنسانية التي يقدمها الراوي من خلال “وجع بلا قرار” هي الأهم في العمل، كما أنه طرحها/قدمها بشكل غير مباشر، بشكل مخفي، مستتر وراء الأحداث وطبيعة شخصية “علاء” التي جاءت مركبه وتحمل في داخلها فكرة الصراع الوطني التحرري من جهة، وفكرة الحاجة/الرغبة بالحياة السوية، فالراوي، إنسان، يعيش في المعتقل، معزول عن أحبته، خاصة الأم، لهذا نجدها تفجر فيه هذا الشعور باليتم، وكأن الراوي ـ من خلال سرد الاحداث ـ يؤكد على إنسانيته، على حقه في الحياة، فهو لم يقم بأي فعل غير إنساني، حتى أنه عندما تحدث عن مقاومته للمحتل لم يذكر لنا أنه قتل أحد منهم، وهذا يشير إلى أنه “علاء” شخصية إنسانية بامتياز.
من خلال هذا يمكننا أن نقول أن الرواية غير بسيطة، وتحمل فكرة مركبة، وإذا استطعنا أن نسبر أغوارها نكون قد حصلنا على الفكرة أولا، واستمتعنا بقدرتنا على التحليل ثانيا، وتعلمنا كيف نواجه ذاتنا ثالثا.
عقدة “علاء”
تنويه: هناك سارد للأحدث وهو مجهول الاسم، وهناك بطل الرواية “علاء” احيانا يحدثنا السارد بصوته، واحيانا أخرى يترك بطله علاء يتحدث.
تكمن عقدة “علاء” بأن أمه ماتت خلال ولادته، فأخذوا من حوله يصفونه بقاتل أمه، “وما أن بدأ يفتتح وعيي لامزني شعور دائم بأنني قاتل أمي،… لقد ظلوا يعيرونني بأنني قاتل أمي” ص28، أن يحمل طفل هذا العبء لهو شيء ثقيل جدا، ولا يمكن تحمله، لهذا سنجد “علاء” يقوم بأول ثورة في حياته، من خلال تفجره في غرفة الدرس فيقوم بهذا الفعل بعد أن سمع زملائه في الصف يقول عنه “قاتل أمه”، تقدمت من مقعدي وتقدمت صوب ذلك التلميذ ولطمته بيدي ولم أك اعي لحظتها بأن ثمة قلما كان في بين أصابعي المرتعشة، فتسبب بجرح غاثر في وجهه وسط دهشة وذهول المعلم والتلاميذ” ص29، بداية التخلص من الفكرة جاءت بهذا الفعل المتمرد، والذي سيكون له توابع لاحقة، تجعل من “علاء” حالة فريدة في مواجهة الظلم الواقع عليه كفرد أو كشعب.
السارد يحدثنا عن الأم بأكثر من موضع، فهي الطاقة التي تمده ليسرد لنا هذا العمل الأدبي، يقول عنها: “مجرد حضور الأم في حياتك يمنحك السكينة والأمان تغدق عليك بحنانها الذي لا ينضب… كم هو رائع أن يكون لك أم تتفقدك… تحمل همك.. وتقطع المسافات كي تزورك…. تهتم بتفاصيل ماذا تأكل أو تشرب أو تلبس… ولا تيأس من تقريعك حتى لو صرت كهلا، هي لعبة الأمومة الأزلية تمارسها عليك بشكل عفوي… الحب الأمومي لا يتجزأ” ص30و31، بهذا الكلام ينحاز السارد إلى بطله “علاء” ويوضح العقدة التي أثرت وتؤثر عليه، فكل من يفقد أمه، بالتأكيد سيكون عنده نقص، ويكون غير سوي.
في المقابل يحدثنا “علاء” عن أثر غياب للأم من خلال قوله: “اليتم يورثك الشعور بالحرمان والنقص، الحرمان الذي يشعرك بالجوع وسط التخمة” ص32، إذا ما قارنا بين ما قاله السارد، وبين ما قاله علاء، نعلم حجم الضغط الذي يقل على كاهله، فهو الوحيد بلا أم، الكل يستمتع بحضورها إلا هو وحيد، فاقد لهذا الكائن الخاص.
“علاء” الطفل لا يفتقد لأم فحسب، بل هناك زوجة أب قاسية في تعاملها معه، “دأبت على ملاحقتي بلسانها السليط بعينيها الجامحتين غضبا بلعناتها وتذمرها وتلك الكراهية اليومية التي اعتادت أن تشيعني بها… لقد استحالت إلى كابوس ينغص علي حياتي كانت تميز أبناءها عني وعن كوكب تخصهم في كل شيء وتحرمنا من كل شيء” ص32، لهذا فكر في التخلص منها وقتلها، لكنه لم يستطع ذلك، لماذا؟، أليس هو من قام بالتمرد في غرفة الصف، وتجاوز المعلم والطلاب وأوجع لمن أهانه؟.
يجيبنا “علاء” على هذا السؤال: “…يخضر بذهني ابناءها الصغار الذين سيغدون ايتاما مثلي فأعود وأتراجع عن مخططاتي، لقد كان اليتم نقطة ضعفي الصارخة” ص33، إذن هناك ضغط خارجي تمكن علاء من إزالته والقضاء عليه تماما، من خلال ضربه لأحد التلاميذ، فكان عبر لهم، وهناك ضغط من داخل الأسرة لا يمكن إزالته، وعليه أن يتعايش معه غصبا ومكرها.
الظلم الذي تربى عليه “علاء” اقتران بزوجة الأب، جعله يشعر/يجد في كل ظالم زوجة أب، “لقد كانت حياتي بعمومها أكبر زوجة أب شمطاء” ص34، بعد كل هذه القسوة لا بد من البحث عن ملجأ/متنفس يستطيع من خلاله “علاء” التخفيف من وطأة الألم الذي يتعرض له، فكانت “الانتفاضة” مخرج ايجابي له، يستطيع من خلالها الهروب من ظلم “سهام” أولا، وتفريغ الظلم الواقع عليه وعلى شعبه من خلال عمل عنيف، لهذا وصف الانتفاضة: “ما جاءت إلا لتخلص الجميع من رحى الظلم والاستعباد فانشدت لها بكل جوارحي، لقد صارت بمثابة أمي” ص38، بهذا المشهد نجد إنسانية “علاء” فهو لم يميل للعنف إلا لسبب إزالة الظلم عنه وعن الآخرين، وليس حبا في العنف، كما أن الظلم الذي تعرض له، جعلنا نبرر له ردة الفعل العنيفة التي ابدها، فهو أولا وأخيرا إنسان.
إذا ما توقفنا عن آخر كلمة “بمثابة أمي” التي قالها “علاء” يتأكد لنا عقدة الأم التي تسيطر عليه، لهذا نجده هذا الوصف لحالة عندما يحدثنا عن ردة فعل أم رفيقه “رامي” الذي استشهد أثناء قيامهم بإلقاء الزجاجات الحارقة على دورة جيش الاحتلال، “كنت أخشى عتابا مرا من والدته لكنها بدلا من ذلك احتضنتني راح نشيجها يغلغل وجعا في قلبي، لحظتها شممت رائحة الأمومة واستشعرت حنانا يملأ روحي، … ما أروع تلك اللحظات تمنيت لو يطول بقائي في صدرها كي أروي ظمأي المتأجج للأمومة” ص44و45، لأول ومرة يتم حضن “علاء” لهذا سنجد أثر هذه الحضنة عليه لاحقا، من خلاله علاقة ب”أنهار” التي أرادها أن تعوضه عن حنان الأم المفقود أصل، والعاطفة اتجاه “كوكب” التي تزوجت ولم تعد تمنحه ذلك الشعور السابق.
يحدثنا “علاء” عن حادثة ثانية وجد فيها ذاته الباحثة عن الأم، من خلال “سهام” زوجة الأب القاسية، ها هي تبدي مشاعر حانية عندما وجدت فيه ذلك الشاب الحساس النابض بالحيوية المشاعر الإنسانية: “…وقبل أن تمضي أدارت وجهها نحوي وحدقت بوجهي في الظلام وقالت: مالك يا بني؟ إلي أنا هتفت الكلمة الحميمة؟ أأنا من تخاطبني بها؟ لأول مرة اسمعها من سهام بل لأول مرة أسمعها على لسان امرأة تخاطبني بلغة الأمومة التي لا أعرفها، ما أروعها، ما أجملها، ما أخصبها من كلمة، سقطت في فؤادي كالندى، كالياسمين، كرائحة الأمومة المفقودة، آه كم احتاجها في زمن الاغتراب واليأس” ص87، الأثر الذي تركته كلمة “بني” ازاحت كل الألم منه، وجعلته يستخدم تعابير ناعمة وسلسة تلامس الفرح والحياة، فإذا كانت الكلمة الدالة على الأم فعلت فيه كل هذا، فماذا سيحدث له لو كانت الأم بكليتها حاضرة؟.
“كواكب” اخته تأذت معه وبنفس المقدار من زوجة الأب، لهذا يميل إليها بشكل غير عادي، فهي تعرضت للظلم معه، وعانت ما عانى هو من قهر “سهام”، كما أنه يحمل في داخله حاجة للأم التي لا يفتقدها ، والأنثى بطبيعتها تحمل/تمنح شيء من الأمومة، إن كانت أخت أو حبيبة.
لهذا نجد “علاء” يرفض أن يتخلى عنها، فيريدها إلى جانبه، كتأكيد ـ لا شعوري ـ على حاجته للأم/للأخت/للحبية، فالمرأة هنا هي المحرك للعاطفة وللسلوك، فعندما يأتي أحد الاشخاص لخطبتها نجده يحدثنا عن مشاعره بهذا الشكل: “…رغبت لحظتها بالبكاء فكوكب هي أجمل وأكثر ما يربطني بهذا العالم براءة، ولا ادري طبيعة المشاعر التي داهمتني ساعتئذ، أهي فرح من أجل كوكب أم حزن على فراقها” ص46، بهذه المشاعر يتأكد بأن هناك رابط بين “علاء وكوكب” هناك علاقة إنسانية تجعله يشعر بهذا الشعور، فهذا الاضطراب في المشاعر يشير إلى الحالة النفسية غير المستقرة عند “علاء” وعلى المكانة التي تحتلها “كوكب: فيه حياته، لهذا سيرفض طلب العريس المتقدم لأنه غير أهل للاقتران بها.
لكن بعده يأتي خطيب جديد، وليس فيه عيوب الأول، ومعه هذا نجد “علاء” يرفضه أيضا، عارضت في البداية متذرعا بأن العريس ينتمي لفصيل آخر غير فصيلي لكنني لم أوفق في الدفاع عن رأيي” ص47، نجد هنا أيضا ـ في العقل الباطن ـ حاجة “علاء” للأنثى، فهو يعمل بكل السبل لكي تبقى عنده اخت/انثى التي تعوضه عما يفتقده من حنان ورغبه بالأنثى.
عندما يفتقد “علاء” رسائل حبيبته “أنهار” نجده يبدي مشاعره اتجاه أخته “كوكب” بهذا الشكل: “كتبت لكوكب ذات مرة رسالة غاصة بالتوتر كنت اتصرف كطفل فقد كل من حوله وأخذ يبكي بحثا عن الأمان والحنان أردت من كوكب أن توضح لي حقيقة ما يجري وأن تفصح لي ما تعرفه من أنهار ” ص128، الوصف الذي قدم لنا يشير إلى أن كاتبه ما زال يعاني من عقدة الأم، لهذا أراد البكاء كالطفل الباحث عن صدر يحضنه، يشعره بالحنان والأمان، فعقدة الأم ما زالت فاعلة ومؤثرة فيه.
ونستشف من المشهد أيضا، حالة البؤس التي تفاقمت عند “علاء” عندما شعر بأنه يفقد “أنهار” وأنها لم تعد كما عهدها، مما جعله يتوتر أكثر ويشعر بشدة الحصار الذي هو فيه.
أما “أنهار” فقد جعلها الراوي تحمل مشاعر واحساس “علاء” لكن بشكل مقلوب، بمعنى أنها تميل إلى الذكر، وتبحث عن مخرج لما ألم بها من فجيعة استشهاد أخوها، فوجدت في :علاء” شيء يمكن أن يزيل تلك العوالق التي احدثها فقدان الأخ: “بعد أن التهمت كتبه ومدوناته الخاصة، أنهار انبهرت بشقيقها وهو ملاحق وكانت في سرها تتمنى العثور على رجل يشبهه في كل شيء ولكنها لم تجده، مع أنها لمحت لي بأن بي لوثة من جنونه وعفويته وشجاعته” ص104، العقل الباطن للراوي يميل للأنثى، ولهذا جعلها تشاركه هذا الميل.
الصراحة والوضوح حاضرة في هذا الاتجاه، وهناك دوافع تجعله يتوحد معها، فيجعلها تتحدث بصوته/بمشاعره/بحاجاته، وكأنه يريد أن يؤكد على العلاقة التي تربط الرجل بالمرأة، فاحدهما لا يمكن أن يكون بدون الآخر، لهذا نجده يتحدث بهمومه هو على لسانها.
بعد أن تمرض “انهار” بمرض السرطان تعمل على جعل “علاء” يشعر بابتعادها عنه، من خلال تقنين الرسائل التي تبعثها له، حتى انقطعت، لكي يكرهها، ولا يتحسر على فراقها، فهي لا تريد أن تسبب له الم، عندما يعرف بموتها بالمرض وهي ما زالت تحبه ومتعلقة به، بل تريده أن يمر عليه خبر رحيلها بشكل عادي، لهذا نجد الراوي يحدثنا عما يمكن أن يحدث لعلاء إذا ما عرف عن مرضها: “هل سيفجع علاء بخبر موتها أم سينبثق شعاع فرح سري بداخله لأنه اكتشف موت حبيبته وذلك أقل وقعا في نفسه من اكتشاف خبر حياتها بسعادة في احضان رجل آخر؟” ص176، هناك اسئلة أخرى كثيرة يطرحها الراوي حول هذا الأمر، وكلها تجعل المتلقي يشعر بحاجة “علاء” للمرأة وحاجته له.
عقدة “أيمن”
هناك تأثيرات أخرى وقعت على الراوي تتمثل بموت العديد من الأصدقاء، مقتل “رامي و سامر” بشكل مباشر على يد جنود الاحتلال، وموت “أيمن” المعلم والقائد، فبعد أن تم سقوطه عن طريق “العصافير” أثناء التحقيق، وبعد توقيع أوسلو نجده يوقع على وثيقة “عدم القيام بأعمال ارهابية” مما جعله يشعر بفداحة السقوط الذي اقدم عليه، فنجده يجلد نفسه بقسوة مفرطة، حتى أنه بدأ بالبحث عن حياة جديدة في دبي، محاولا من خلالها ان يهرب/يتجاوز/يتجاهل الماضي.
مشاعر الألم والندم التي تصاحب فعل السقوط تشير إلى نبل إنسانية الفاعل، وتؤكد على وجود حياة لبذرة الخير فيه، فهو أولا وأخيرا إنسان، قابل للوقوع في الخطيئة:
“ـ لا شيء اطلاقا. افكر بالسفر للخارج، لم اعد أطيق البقاء هنا.
ـ لماذا تستمر بجلد ذاتك؟ ما حدث قد حدث، بوسعك أن تعيش كما يعيش الآخرون، خطيئتك ليست بأكبر من خطايا هذه المرحلة.
ـ هذا تبسيط سخيف لخطيئتي يتعين علي الاعتراف بأنني ثوري فاشل” ص84و85، اعتقد أن هذه المشهد يدفع المتلقي لكي لا يقع بما وقع به “أيمن” فالشعور بالذنب أكبر واشد ألما من سياط الجلاد، ولا يمكن أن يمحى الخطيئة إلا بالتقدم من جديد إلى الأمام، أو من خلال قتل المشاعر والتحول إلى شخص آخر يفكر بطريقة جديدة.
صوت الراوي
كما قلنا في البداية هناك راوي للأحداث، مجهول الاسم، وهنا أحداث يروها أو تروى على لسان “علاء، الراوي يحدثنا عن علاقته ب”جنان” التي فارقته بطريقة عادية، و”علاء” الذي فارقته “أنهار” مجبرة، فكلاهما مر بتجربة الحب، لكن مأخذنا على هذا الأمر أنهما يتحدثان بصوت واحد، وبهم واحد، فهما شخصية/صوت واحد لكن بشخصين، ولتأكيد هذا الأمر نأخذ هذا المقطع على لسان الراوي:
“بدا أمامي مستغرقا بأفكاره التي تنمو وتتكاثف كما قال لي” ص21، مشهد يشير إلى أن الراوي يعرف تماما ما يجول في نفس “علاء” من أفكار وهواجس.
يقول على لسان “علاء” أضناني البحث عن رائحة أمومة تطفئ ظمأي وتخصب روحي” ص229، ونجد الراوي يقول في الصفحة التي تليها: “يبحث عنها في كل محطة يمر بها وقد أضناه البحث عن دفء” ص30، فالراوي وعلاء كلاهما يستخدمان عين لفظ “أضناني”.
ويقول الراوي عن علاء: “أعود وأشتغل بتصفح أوراقه فقد غمرني إحساس أنه يكتب عني كل جملة خطها على أوراقه استفزت ذاكرتي” ص107، هذا يؤكد على وجود توحد/انسجام بين الراوي وعلاء، وإلا لماذا جعل “علاء” الراوي يقرأ أوراقه ويخبرنا بما فيها، لماذا لم يحدثنا علاء مباشرة عن نفسه بدون واسطة الراوي؟.
نعود إل لعبة الراوي و”علاء” من خلال الحديث عن الرسالة التي بعثاها “أنهار” من امريكيا،:
“ـ لا اقدر يا علاء أرجوك لا تلح علي ربما أكون متلهفا لمعرفة محتواها لكنني اخشى أن أرث أوجاعك بدلا منك لذا اعفني من هذه المهمة.
ـ كلا لن اعفيك انت صديقي ورفيقي وأخي وكاتم اسراري.” ص163، نستشف من هذا الحوار أنه يدور داخل “علاء” فقط، لكن الراوي أراد أن يجعله مبررا لنا، فأخدل نفسه في حوار مع بطله “علاء” وخلق لنا هذا الحوار.
الحكم
تجربة الاعتقال والحياة لا بد أن تترك أثرا وافكارا معينة على الكاتب، من هذا نجده يقدم لنا خلاصة تجربته في هذا العمل، لنستفيد منها:
“الحزن يا صديقي هو شيفرتنا السرية ومعطفنا الداخلي الذي نرتديه بوقار كي يقينا من برد ذواتنا من منا ليس له أحزان؟” ص24
“ثمة مكانا للصفح وينبغي للمرء لأن يعفو عند المقدرة” ص35
“أن تكون مناضلا يعني أن تكون أشبه بنبي يبشر البشر برسالة الثورة بين الجماهير” ص73
“أسوأ ما في الآتي أنك تبدأ من جدي” ص78
“الانتظار هو نار تنضج الحب على لهيب هادئ” ص112
“منذ قرن ونحن نتوارث الهزائم جيلا تلو آخر نحن أمة مثقلة بأوجاها وخيباتها” ص145
“أن الحياة أعظم من أن يختزلها الموت…. لا ينبغي التنازل عنها بسهولة” ص154
هناك اخطاء مطبعية في الرواية ، جاءت في الصفحات 21″بافكارة” بدا بأفكاره، 79 “غنقاذ” بدل إنقاذ، و144 “جل” بدل أجل، و152 “شزرات” بدل شذرات، و155 “أر” بدل “أن ترى”
الرواية من منشورات المكتبة الشعبية ناشرون، نابلس فلسطين الطبعة الأولى 2017.