مفاهيم ومصطلحات استعمارية.. القومية (8)

إبراهيم محمد الهمداني | اليمن

 
جاء في معاجم اللغة، والقوم:- جماعة من الرجال والنساء، وقيل هم جماعة من الرجال دون النساء، لقوله تعالى:- “يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن… ” ، فخص الرجال تحت مسمى القوم، وأفرد جنس النساء خارج ذلك المسمى، وجعله مقابلا له، وقد يدخل جنس النساء تحت مسمى القوم على سبيل التبع، وقوم كل رجل: شيعته وعشيرته، الذين تربطه بهم علاقة انتماء جامع، يقوم على تمييز الأقوام والعشائر فيما بينها، وفقا لمعايير معينة، وقد ابتكر الإنسان مثل تلك الصيغ الأجناسية – مثل العائلة والعشيرة والقبيلة والقوم والشعب و…. إلخ – لكي يضع نفسه في مجموعة يأمن إليها، ويتحصن بها، ويحقق قيمته الوجودية من خلالها. 
 
إن طبيعة التحولات ومراحل التطور الحضاري، التي مرت بها المجتمعات البشرية، يجعل من تلك الكينتونات السلطوية أنظمة حياتية معاشية، ناتجة بالضرورة عن الظروف والاحتياجات، وتعد القبيلة الكيان الأكثر حضورا وعمقا في الوجدان الجمعي، ويظل الانتماء إليها، إرثا ثقافيا واجتماعيا متوارثا عبر الأجيال، بينما يصبح الانتماء إلى العائلة أقل صمودا وبقاء، نظرا لتعاقب الأحفاد والأبناء، وتفرع السلالة الواحدة إلى عدة فروع وسلالات، وكذلك الانتماء إلى الشعب، الذي قد يستبدل بالانتماء إلى شعب آخر، عبر النزوح والهجرة والحصول على الجنسية، وبذلك تبقى القبيلة هي القومية العصية على الاندثار، بما تحمله من قيم ومعاني الانتماء، وضوابط ومحددات العلاقات الداخلية والخارجية، وما توليه من قيمة خاصة للإنسان، ورغم قيام كل الكينتونات على نزعة العصبية والتميز عن الآخرين، إلا أن الانتماء الى القبيلة لا يحمل – غالبا – النزعة الاستعلائية، رغم محاولات القوى الاستعمارية والأنظمة الحاكمة استهداف القبيلة، وتسويه صورتها، والحط من شأنها، وتفكيك بنيتها، وهدم أسسها ومبادئها وعاداتها وتقاليدها وأعرافها، وحمل المجتمعات على الانسلاخ عنها، تحت عنوان التحضر والمدنية، وإذا كانت طبيعة الحياة وتحولاتها الحضارية، قد فرضت على الإنسان ضرورة الانتماء إلى تلك الكيانات المختلفة، فإن حاجة الإنسان للانتماء إلى كيان شامل، كانت أكثر إلحاحا وحضورا.
 
نجح الرسول الأعظم – صلى الله عليه وعلى اله وسلم – في إنتاج وتقديم مشروع حضاري نموذجي مثالي، ذابت فيه كل الهويات والانتماءات والقوميات، تحت مظلة الأخوة الإيمانية، والقومية الاسلامية الجامعة، وتماهى صهيب الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي والأنصاري والقرشي المهاجري، في بوتقة “إنما المؤمنون أخوة” ، و”بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم”، ٧١/ التوبة، وبذلك تلاشت القوميات الجزئية القائمة على الانتماءات الضيقة، ذات الطابع العنصري، في رحاب المشروع الحضاري الإنساني الشامل، انتماءً وقومية وهوية. 
 
إن سقوط المشاريع الحضارية الكبرى، يؤدي بالضرورة إلى ظهور مشاريع حضارية صغرى متعددة، تحت مسميات أكثر خصوصية، ولذلك فإن القومية في معناها الشامل، يجب أن تكون مشروعا حضاريا، قبل أن تكون انتماءً عنصريا، ويمكن القول إن تسلط نظام الحكم الإسلامي، باسم الله والدين، كما تسلطت الكنيسة في أوروبا والغرب، قد أدى إلى تسخير الدين لخدمة السلطة، والانحراف عن طبيعة المشروع الحضاري، الذي قدمه الدين الإسلامي، على مختلف العصور والأزمنة، وأنتج نماذج حضارية مشوهة وعقيمة، تدين الإسلام وتشوهه، أكثر مما تحاول تقديمه في صورته السليمة، وقد نتج عن ذلك:- 
١- تغييب القومية الإسلامية، ورفضها على خلفية رفض النماذج السابقة، التي كان آخرها الاحتلال العثماني، الذي كان يسعى لتبرير وجوده تخت مظلة الحكم الإسلامي، والقومية الإسلامية، لكن تسلطه وطغيانه واستبداده ظلمه وجوره باسم الدين، أفقد الناس الثقة بكل من يدعي حمل المشروع الإسلامي الجامع، خوفا من تكرار النموذج العثماني التسلطي. 
 
أدى سقوط المشروع الحضاري الإسلامي الجامع، إلى عودة المشاريع القومية والقبلية والعشائرية الصغيرة، التي تحمل في جيناتها بذورا سلطوية، سرعان ما تثمر منظومات حكم، ذات مشاريع حضارية خاصة، تنطلق من موروثها المعرفي والقيمي والأخلاقي، المتشدد في الحفاظ على قيمة الإنسان، والالتزام الجمعي بالمبادئ والقيم والأعراف والعادات والتقاليد، التي قد تصل إلى مرتبة المقدس، ويعد انتهاكها جرما لا يغتفر. 
 
٢- إحلال القومية العربية محل القومية الإسلامية، والتعويل على الانتماء في تجاوز إشكاليات الاختلاف وصراع الأديان، خاصة بين الطوائف الدينية والمذهبية المختلفة، ضمن الإطار الجغرافي الواحد. 
 
وقد فشلت هذه القومية في تحقيق أهدافها، بل قدمت خدمة كبيرة للاستعمار، بإعادة روح الشعوبية والعنصرية المقيتة، فقد اقتصرت على الجنس العربي، جاعلة من المشترك الثقافي والهوية والانتماء والعادات والتقاليد… الخ، قاعدة لتحققها، وأخرجت الانتماء إلى الدين، والأخوة الإيمانية الجامعة من حساباتها، فسقطت في مستنقع العنصرية والتعصب الأعمى، وحين استقطبت اليهودي والنصراني/ المسيحي إلى تلك القومية – بحكم المسترك الجغرافي – رغم النهي الإلهي عن موالاتهم، نراها قد أقصت واستبعدت الأخ المسلم/ المؤمن، الذي أوجب الله موالاته وأخوته، وهذا أولا. 
 
وثانيا:- على الرغم من مزاعم القومية العربية معاداة الكيان الصهيوني الغاصب، كونه دخيلا وطارئا، يجب اقتلاعه، إلا أنها وقعت في التناقض المخزي مرة ثانية، لأن المبرر الذي جعلها تقبل بوجود اليهودي والنصراني/ المسيحي داخل قوميتها، وضمن مكوناتها، هو نفسه الذي يلزمها قبول اليهودي/ الصهيوني، المستوطن في فلسطين، ضمن إطار ما يسمى بالشرق الأوسط، خاصة وقد أصبح هذا الكيان ممثلا في دولة، ووجوده أمرا واقعا. 
 
تكمن مشكلة القومية العربية في مخالفتها لشمولية الانتماء، التي أمر الله تعالى بها، وحدد طرفي العلاقة في هذه الحياة، ممثلة في الأنا/ المسلم، والآخر/ الغير مسلم، وهي علاقة رفض، مادام الآخر مصرا على تموضعه المعادي لله، بينما أصبحت العلاقة في عرف القومية العربية، ممثلة في طرفيها، الأنا العربي والآخر المسلم، متراوحة بين القبول والرفض، ويغلب عليها التعصب للأنا، حسب المتغيرات والأهواء، إن لم نقل أنها علاقة رفض محض، انطلاقا من فلسفة التموضع التقابلي بين الأنا والآخر. 
 
وفي ظل غياب القومية الإسلامية، وفشل القومية العربية، نشأت كيانات صغيرة، ذات مشاريع حضارية صغيرة/ جزئية، مرتكزة على موروثها التراكمي المتصل زمنيا ومكانيا، فكانت القومية القبلية هي المرتكز السياسي والثقافي والاجتماعي، للمجتمعات العربية وخاصة المجتمع اليمني. 
 
ذلك ما تجلى واضحا في الحالة اليمنية الراهنة، بعد سقوط مشروع الدولة، وتفكك منظومة الانتماءات والولاءات السياسية والوطنية الجامعة، نتيجة للعدوان الصهيوسعوأمريكي، وما نتج عنه من انقسام في الولاءات والانتماءات، وبدخول البلاد في حالة فراغ سياسي، سارعت القبيلة إلى لملمة شتاتها، وإعادة تكوين بنيتها، التي طالما تعرضت للهدم والتفكيك من قبل النظام الحاكم، وممثلي السفارات الامريكية والبريطانية والفرنسية، وأدواتها في الداخل والخارج، بمختلف الطرق والوسائل، الأكثر قذارة ووحشية وهيمنة وتسلطا، بهدف القضاء على آخر ملاذ للهوية اليمنية، وآخر معاقل الذات في انتمائها القبلي، الضامن بقاءها واستمرار وجودها، في كيان سياسي، له أنظمته وقوانينه، ومرجعيته الدينية والقبلية، ليسهل لقوى الغزو والاحتلال فرض سيطرتها وهيمنتها، وإدخال البلاد في أتون فوضى عارمة وحرب أهلية، تقوم إذكاء نار الثارات القبلية والحزبية والمذهبية والطائفية وغيرها. 
ورغم ظهور المؤشرات المؤكدة حدوث ذلك لا محالة، علاوة على حملات الاستهداف الممنهجة مسبقا، من قبل فراعنة السفارات وأبواقها الثقافية والإعلامية الرخيصة، وما قامت به أدواتها الإجرامية وتنظيماتها المسلحة، من عمليات اغتيالات لشخصيات بارزة، مستهدفة كل مظهر من مظاهر قوة المجتمع اليمني، في تموضعه القبلي والمدني والعسكري، إلا أن القبيلة اليمنية استطاعت إعادة ترتيب صفوفها، والنهوض بواجباتها ومسئولياتها، وحفظ كيان المجتمع، ومواجهة قوى العدوان والغزو والاحتلال الصهيوسعوأمريكية الإجرامية، وبتشكل هذه القومية القبلية، سقطت أولى رهانات العدوان الغاشم، الذي كان يعد بحسم المعركة في غضون بضعة أشهر، إن لم تكن أسابيع معدودة. 
 
تشكلت القومية القبلية في اليمن بفعل مقتضيات الضرورة، وتلبية للحاجة الراهنة، ما يعني ارتباطها بمتغيرات الوقت الراهن، وافقتارها للاستمرارية والرؤية المستقبلية، علاوة على غياب مصدر التمويل الرسمي، الضامن لبقاء تحالف مكوناتها، وإذا كانت القومية القبلية قد انطلقت إلى الجبهات لمواجهة العدوان، انطلاقا من ما يمليه عليها الواجب، وتفرضه العادات والتقاليد والمبادئ، وتقدسه قيم الأخوة (المخوة) والأعراف القبلية، فإن ذلك لم يكن دافعا كافيا لتحصين تلك القومية من التخاذل أو الملل والتراجع، أو الوقوع في شرك الثارات والصراعات الداخلية، وهو ما عملت عليه قوى العدوان بشكل كبير وواسع، لكي تحقق أدنى اختراق أو تقدم في أي جبهة على مستوى المواجهات العسكرية. 
 
لم تكن منطلقات “العيب الأسود أو داعي المخوة أو النكف” وغيرها، كافية لمنح القومية القبلية القدرة على الصمود والمواجهة فترة أطول، خاصة وقد أصبح اليمن بأكمله مسرحا للقصف والتدمير، وقد طالت حرب الإبادة الوحشية الأرض والإنسان، علاوة على ضعف الإمكانات، ووجود كيان قبلي موالي للعدوان، موازيا للكيان القبلي الوطني، ويقف في وجه القبيلة متنكرا لأسلافها وأعرافها وعاداتها وتقاليدها، وهنا كانت الضرورة تقتضي وجود قومية جديدة، أوسع وأشمل وأقوى، وكانت المسيرة القرآنية هي القومية الجديدة، التي انتظمت القبيلة ضمن معطياتها، واستلهمت مبادئها وأسسها، فأصبحت قومية جهادية، تستند على الثقافة القرآنية، وهدي القرآن الكريم، وذلك ما أعطاها القوة والقدرة على المواجهة والرد والردع، وامتلاك زمام المبادرة، ومقومات ترجيح موازين القوى، يضاف إلى ذلك حركة الإصلاح الاجتماعي الواسعة، التي قام بها عدد من أعضاء المجلس السياسي الأعلى، وفي مقدمتهم الشهيد الرئيس صالح الصماد سلام الله عليه، والاستاذ المجاهد محمد علي الحوثي، واللواء المجاهد أبو علي الحاكم، وغيرهم من أبناء المسيرة القرآنية ، في مسار الإصلاح الاجتماعي الشامل، حسب توجيهات السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي حفظه الله، لحل قضايا ومشاكل المجتمع، وخاصة مشاكل الثارات المزمنة، من اجل توحيد الصفوف والجهود لمواجهة العدوان. 
 
استطاعت القومية القبلية في تموضعها الجديد – المتسلح بالثقافة القرآنية – أن تلعب الدور المحوري الهام والأكبر في مواجهة العدوان، من خلال توحيد الصف الداخلي، وانتظامها في إطار القومية القرآنية/ الدينية الإسلامية، التي عادت مجددا في صورتها الأصيلة النقية، كما رسم أبعادها وملامحها الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وعلى اله وسلم، وأئمة الحق وأعلام الهدى من آل بيته الكرام، لتصبح القبيلة بذلك قوة مركزية ضمن قوى محور المقاومة، بمختلف توجهاتها، في انسجام وتوافق كبيرين، وبمقدرة فائقة على تجاوز الذاتي والآني، إلى الجمعي/ الكلي الإنساني، المنفتح على الزمن إلى ما لا نهاية، والمتجاوز لحدود المكان، من أجل إعلاء كلمة الله، ونصرة عبادة المستضعفين. 
 
إذن… من هو الأنا ومن هو الآخر، وكيف يمكن قراءة العلاقة بينهما في سياقيها الفلسفي الاستعماري والواقعي الراهن؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى