«رحيل» زوج يعقوب.. «اليسر بعد العسر»

د..محمود رمضان | أكاديمي مصري

هي الصابرة المحتسبة، النقية، الطاهرة التقية، هي رحيل أو (راحيل)، زوجة سيدنا يعقوب، والدة سيدنا يوسف، عليهما وعلى نبينا محمد أشرف الصلاة وأتم السلام.

وسيدتنا رحيل هي الزوجة الثانية لسيدنا يعقوب، وأنجب منها سيّدنا يوسف عليه السلام، وهو أحبُّ الأبناء إلى قلبِه، وقد ورد ذكر قصة سيدنا يوسف في سورة قرآنية باسمه، فيها الكثير من العظات والعبر، وفيها من جماع الحكمة وفضيلة الصبر، وبيان طبائع النساء، وقوة تحمل سيدنا يوسف واعتصامه بحول الله وقوته، وهو خارج السجن، ثم في السجن، وكانت جائزة الله الكبرى له أن جعله على خزائن الأرض.

كيف احتملت سيدتنا رحيل غياب أحب أبنائها إليها وإلى قلب زوجها سيدنا يعقوب طيلة أربعين عاما، وهي الأم ذات الحنان الدافق والمشاعر المرهفة، أربعون عاما غاب ابنها عنها، عانت وكابدت الليالي بدموع ساخنة، وتمر الأعوام عليها ثقيلة كالجبال.

كان يوسُف عليه السلام أحبّ الأبناء إلى قلب سيّدنا يعقوب عليه السلام، فهو الابنُ الأكبر لزوجتِه رحيل التي كان يحبها حباً كبيراً، وكان يرى في يوسف الحلم والنبوة والعلم، لكن أخوةُ يوسف لم يرق لهم حب أبيهم ليوسف، فدبّروا له المكيدة وألقوه في غيابات الجب، ثم عادوا لأبيهم بدم كذب على قميص يوسف وزعموا أن الذئب أكله وهم عنه غافلون، انفطر قلبه وتمزق قلب سيدتنا رحيل على أحب أبنائها إلى قلبها.

لكن كيف عانت سيدتنا رحيل، وكيف كان يحبها سيدنا يعقوب، وكيف كانت قصة حبهما؟

عندما بلغ سيدنا يعقوب سن الزواج، أشار عليه أبواه أن يتوجه الى خالة (لابان) فى أرض (حران) بالعراق ويخطب إحدى ابنتيه، فقد آمنتا بدين إبراهيم عليه السلام، فانطلق يعقوب عليه السلام إلى العراق، وقدم يعقوب على خاله فى أرض حران، الذي له إبنتان هما: (ليا) الكبرى، و(رحيل) وهى الصغرى التي كانت تفوق شقيقتها جمالا وذكاء وصفاء، فتحدث سيدنا يعقوب إلى خاله برغبته في الزواج من رحيل، فطلب خاله لذلك مهرا أن يرعى غنمه وإبله ويخدمه سبع سنين، فوافق سيدنا يعقوب، وبعد انتهاء السبع سنوات صنع خاله (لابان) طعاما من أجل الزفاف وجمع الناس عليه، وأقبل ليل ذلك اليوم، ودخل يعقوب خيمته، فألفى فيها زوجة.

 فلما تنفس الصبح، وأشرقت الأرض بنور ربها، وجد أن خاله قد زوجه ابنته الكبرى (ليا)، بينما كان الشرط بينهما أن يزوجه صغراهما رحيل، فغضب سيدنا يعقوب من خاله، وقال له: لقد خدعتني، ولقد وفيت صداق رحيل بالعمل معك سبع سنين، ثم تزوجني (ليا)، ليرد خاله: لم أخدعك، فعار لدينا تزويج الصغرى قبل الكبرى، وإذا كنت تريد الزواج من رحيل فاعمل عندي سبع سنوات أخرى.

ووفى سيدنا يعقوب بوعده وعمل سبع سنوات عند خاله، وبالفعل تزوج سيدتنا رحيل، وتبدأ مأساة أخرى في حياة رحيل، فقد ولدت (ليا) لسيدنا يعقوب، أما الجاريتنان التي وهبهما خال يعقوب له فأنجبتا من سيدنا يعقوب، وتبدأ مأساة رحيل التي تحب زوجها ويعشقها سيدنا يعقوب، بتأخر إنجابها، فخلت إلى الله تبارك وتعالى تناجيه، وتتضرع له، وبكت كثيرا في دعائها لله أن يرزقها الله من الذرية الصالحة ولدا من زوجها سيدنا يعقوب، ولأن الله سميع مجيب الدعاء، فقد أنجبت ولدا لم يعرف العرب شبيها لجماله، وأسمته يوسف، وكان يوسف عليه السلام أشبه بجدته لأبيه سارة زوج سيدنا إبراهيم عليه السلام، لذا فقد كان أحب أبناء يعقوب إلى قلبه، ثم أنجبت بنيامين بعد يوسف بسنوات. 

وتعيش سيدتنا رحيل سنوات الشقاء والمعاناة التي لا تحتملها الجبال، فقد ألقى أخوة يوسف به في غيابات الجب، وجاءوا أباهم عشاء يبكون ومعهم قميص يوسف وعليه دم كذب، ليقولوا لأبيهم إنهم ذهبوا ليستبقوا وتركوا يوسف عند متاعهم فأكله الذئب وهم عنه غافلون، ليعتصر الحزن والألم يعقوب ورحيل، ويعيشا معاناة فقد أحب الأبناء وأجملهم وأخلصهم.

وتمر السنون ثقيلة، ويسرد القرآن الكريم في سورة يوسف قصة نجاته من البئر، وتربيته في بيت عزيز مصر، ومراودة زوج العزيز ليوسف عن نفسه، ودخوله السجن، ثم خروجه بعد سنوات لتفسيره رؤيا السبع سنوات العجاف والسبع السمان، ليتولى يوسف خزائن الأرض بأمر من عزيز مصر، ثم قدوم إخوته إليه طلبا للمؤن والطعام، ويعرفهم سيدنا يوسف وهم له منكرون، ثم يسألهم عن أخ لهم من أبيهم، وتحدث المحنة وهي اكتشاف صواع الملك في رحل أخيه، وتمر الأحداث إلى أن يعرفهم يوسف بنفسه ويعطيهم قميصه ليلقوا به على وجه أبيه الذي أصابه العمى وابيضت عيناه من الحزن على فقده يوسف، وبإلقاء قميص يوسف على وجه أبيه يعقوب يرتد إليه بصره، ثم يرحل الجميع إلى يوسف فيسجد له أبواه، يعقوب ورحيل والأحد عشر أخا تصديقا لرؤياه «إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ».

وتقر عين رحيل بولدها يوسف بعد غياب أربعين عاما، وعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ».

وتتوفى سيدتنا رحيل التي لم تسجد لصنم أبدا، ويجمع سيدنا يعقوب أولاده، وجاء في القرآن الكريم «وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»، ثم توفّي سيّدُنا يعقوب عليه السلام عند عمر 180 عاماً، وترك خلفه وصيّة يطلب فيها من يوسف عليه السلام بدفنِه بالقرب من قبر أبيه إسحاق، وبالفعل دفن سيدنا يعقوب في خليل الرحمن، أما قبر سيدتنا رحيل ففي بيت لحم.

رحم الله زوج نبي وأم نبي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى