قد يضل العلمُ

مجد القادري  | سوريا

 

أثناء قراءتي كتاب (الأجوبة المسكتة فن الإقناع والإمتاع) للدكتورة منيرة فاعور رئيسة قسم اللغة العربية في جامعة دمشق، لاحت لي بارقة في فصل علم البديع وفنونه من كتابها، في الأسلوب الحكيم، ص175، وهذا الأسلوب البلاغي فنٌّ بديعٌ من فنون الكلام، وضرب من التعبير يقوم على صرف سؤال المتكلم على غير وجهة المراد، وذلك حينَ تتجاهلَ المخاطب فتجيبه عن سؤال آخر لم يسأله بهدف الإسكات والإقناع والإمتاع، فتورد الدكتورة منيرة فاعور شاهداً على هذا الأسلوب من القرآن الكريم، والذي يندرج تحت الأجوبة المسكتة، والشاهد: (يسألونكَ عنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقيتُ للنَّاسِ والحَجِّ) [البقرة:189].

فإنما سألوا رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم: “ما بالُ الهلالِ يبدو دقيقاً مثلَ الخيطِ، ثم يتزايدُ قليلاً حتى يمتلئ ويستوي، ثمَّ لا يزالُ ينقصُ حتى يعود كما بدا؟”، “وما سألوا عنه مسألة دقيقة من علم الفلك تحتاج إلى فلسفة عالية، وثقافة عامة، فصرفهم عنها ببيان أن الأهلة هي من وسائل التوقيت في الأهلة لا حقيقتها”، فأجاب: (قل هي مواقيتُ للناس والحج) وذلك حتى تتيسر لهم الحقائق والوسائل العلمية التي تعينهم على فهم هذه الظاهرة الكونية.

وبذلك صرف الله السائلين عن مسألة علمية في مقام غير مناسب إلى ما يجب أن يسألوا عنه، إذ الأولى بالسائل أن يسأل عن غاية الأهلة في ذاك المقام، والتي هي مواقيت للناس والحج؛ أي أخبرهم عن الغاية التي يجب أن يسألوا عنها، أما عن التفسير العلمي للمظاهر الكونية فتركها لجهود البشر واجتهاداتهم العلمية. وفي ذلك أيضاً إشارة إلى أن طُرقَ العلم قد يضيعُ فيها السائل والباحث، إذ يجب أن يبحث في الاختصاص المناسب من دون تشعبٍ وطَرْقِ أبواب أخرى من العلوم التي قد تضيعه في متاهات، وهنا تظهر أيضاً أهمية الأستاذ المشرف على الطالب الباحث وضرورة إرشاده في إثارة المسائل والأبحاث وطرقِ المواضيع، فلا يتطرق إلى موضوع ليس له مثلاً أية صلة بالبحث، أو يدله على مسألةٍ كان يجب أن يناقشها.

وعلى ذلك فكثيراً ما يضيع الإنسان في متاهات العلم الظاهري أو الغيبي، فيكون علمُه حجاباً بينه وبين الحق والحقيقة، ويظن أنه على حقٍّ، في حين أنه يكون من الذين (ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمࣲ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَـٰوَةࣰ فَمَن یَهۡدِیهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [سورة الجاثية 23].

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى